مجلة النجوم – سيدني.
لا يخفى على أحد ما تعيشه الساحة الغنائية العربية من حالة “نضوب فني” منذ ما يزيد على 25 عاماً، إذ لم يتمكن أي من الفنانين الذين ظهروا خلال الأعوام الطويلة الماضية من تحقيق جماهيرية تمكنهم من سحب البساط من تحت أقدام نجوم الصف الأول أو حتى احتلال أماكن في جوارهم، حتى إن نجاح البعض اقتصر على أغنية واحدة أو أغنيتين، ثم تواروا طي النسيان، بينما بقيت السيطرة لعدد محدد تتجدد نجوميتهم مع كل أغنية جديدة، مع استمرار أغانيهم القديمة المحفورة في ذاكرة جمهورهم.
في لبنان كانت هناك برنامج فني خاص بالهواة بعنوان “استديو الفن”، ومن خلال مواسمه المتلاحقة تخرج معظم نجوم الصف الأول، أما برامج الهواة الحالية فهي برامج تجارية لم يتمكن أي منها من صناعة نجم حقيقي، مثلما فعل المخرج سيمون أسمر صاحب فكرة “استديو الفن” استطاع أن “يصنع” النجوم ويختار لهم الأغاني ويتعاقد على حفلاتهم ويسلط الأضواء عليهم في البرامج الفنية، في حين أن الوجوه التي تخرجت من برامج الهواة الأخرى تدير نفسها بنفسها ولا تملك الخبرة الكافية للسير على الطريق الفني الصحيح حتى الوصول إلى مصاف نجوم الصف الأول.
ويحظى لبنان بالنسبة الأكبر من نجوم الصف الأول، من بينهم وليد توفيق وماجدة الرومي وراغب علامة ووائل كفوري ونوال الزغبي وإليسا ونجوى كرم وعاصي الحلاني ووائل جسار ورامي عياش وفارس كرم الذين تخرجوا كلهم من برنامج “استديو الفن” في مواسمه المتلاحقة، وحتى كاظم الساهر انطلق إلى العالم العربي من لبنان عندما طرح مجموعة أغان حققت رواجاً كبيراً كـ”نزلت للبحر” و”هذا اللون” و”كثر الحديث” و”إني خيرتك فاختاري” ومثله صابر الرباعي وقبلهما جورج وسوف، بينما مصر وعلى رغم عدد سكانها الكبير تنحصر نجومية الصف الأول فيها بأسماء محددة أبرزهم عمرو دياب وتامر حسني وشيرين عبد الوهاب وأنغام والأمر نفسه ينطبق على الخليج وسوريا والمغرب العربي.
فما هو سر استمرارية نجوم الصف الأول على مدار عقود من الزمن وما الذي يقف في وجه بعض المواهب من الوصول إلى مكانتهم؟
اجتهاد غير ممنهج
يرجع الملحن المصري صلاح الشرنوبي السبب إلى تغير نمط صناعة الأغنية، إذ باتت تعتمد على “الترند” بمواقع التواصل الاجتماعي، مما أوجد صعوبة في صناعة النجم، ويوضح “في الماضي كان الاعتماد على الأسطوانة والكاسيت والفيديو كليب لنشر أعمال الفنان، أما اليوم فإن طريقة الاجتهاد غير الممنهج هي السائدة وظهرت في مصر أغاني المهرجانات التي تسفه الفن المصري وتحقق مليارات المشاهدات”.
يضيف الشرنوبي، “من ناحية أخرى فإن عناصر الأغنية فقدت قيمتها الفنية كلاماً ولحناً وتوزيعاً موسيقياً مما تسبب بتراجع مستواها حتى أصبح النجوم أنصاف نجوم”.
ومع تحول الفن إلى تجارة يمارسها بعض الدخلاء على المهنة يعتبر الشرنوبي أن هناك نقصاً في عدد المنتجين الحقيقيين، قائلاً “المنتجون اليوم لا يهمهم سوى المال. في الماضي كانت شركات الإنتاج تعتمد على عنصر الوقت لصناعة النجوم، أما اليوم فلم يعد هناك صبر بسبب التكلفة الإنتاجية العالية، فضلاً عن أن السوشيال ميديا حلت مكان القنوات الخاصة ببث الأغاني، ولم يعد يوجد سوى شركتين أو ثلاث شركات إنتاج فقط”.
ولا يخفي الشرنوبي تخوفه من المرحلة المقبلة “لأن معظم النجوم الحاليين قاربوا الستينيات ومن الطبيعي أن يفقدوا حيويتهم ويشيخ صوتهم”.
لكنه في المقابل يرى أن هناك نجوماً بشكل أو بآخر ظهروا في مصر من بينهم ويجز ومروان بابلو وشاهين “هؤلاء يقدمون أغنية (التراب) وصنعوا نجومية في عالم معين لكن لا علاقة لهم بالطبقة الشعبية وأغانيهم لم تنتشر خارج مصر”، مستدركاً “للأسف، الخطر موجود ولا نعرف أي نجوم سيظهرون بعد 10 أو 20 عاماً لذلك يجب على كل الدول العربية أن تنادي للحفاظ على الفن الشرقي لأنه المخرج الوحيد من هذه الأزمة”.
مصر العظيمة
أما الملحن اللبناني نور الملاح فلديه وجهة نظر أخرى ويعتبر أن الوجوه الجديدة لم تتمكن من فرض نفسها في المراتب الأولى لأنها تقدم أعمالاً متشابهة وليست لديها هوية فنية خاصة بها، قائلاً “اللحن الواحد يعمم على كل الفنانين ولم يعد هناك ابتكار وحتى مصر العظيمة التي يتجاوز عدد سكانها 100 مليون نسمة، لا يتعدى عدد العباقرة فيها السبعة أو الثمانية أشخاص”.
كما يشكك الملاح بكفاءة نجوم الصف الأول ويقول “هم يعتقدون أنهم نجوم لكن الغناء قطاع خاص وليس قطاعاً عاماً ولا أحد يحاسب، والإعلام يقبض منهم للترويج لهم وهذا الأمر أدى إلى تراجع المستوى الفني بشكل حاد ولم يعد هناك أغنية جيدة. النجوم مستمرون بأموالهم وشعبيتهم وبأغانيهم التي تفرض على المستمع، وهم نجوم بحضورهم وحفلاتهم وأغانيهم القديمة وليس بأغنياتهم الناجحة، لأن أغنية هذه الأيام لا تعيش أكثر من شهر أو شهرين”، متسائلاً، “كيف يظهر نجوم جدد في هذا السياق؟”.
ويرى الملاح أن “كل نجوم الصف الأول الحاليين لا يعتمدون على صوتهم وأنهم انكشفوا عندما شاركوا في (تريو الأغنية العربية) ولم يفلت أي منهم من النشاز باستثناء نانسي عجرم، إذ تصرفت بذكاء حينما اصطحبت معها مهندس صوت وضع صوتها على الميكسر بتقنية الأوتوتيون المستخدمة عند تسجيل الأغاني في الاستديو، ولو عرف زملاؤها لكانوا تصرفوا مثلها مما يؤكد أنه لا يمكن أن نسمع أصواتهم من دون نشار إلا في الاستديو”.
وتابع، “النجوم الحقيقيون هم عبد الحليم حافظ ووردة وصباح وفيروز، أما غناء اليوم فهو عبارة عن تفقيس”، على حد تعبيره، كما يعتبر أن لبنان هو الرقم واحد في عدد نجوم الصف الأول لأنه البلد العربي الأول كـ”متراكاج” (ماكينة إعلامية)، بينما لا يزيد عدد نجوم مصر على الأربعة وهم شيرين عبد الوهاب وتامر حسني وعمرو دياب وأنغام، مشيراً إلى أنه بغياب التوجيه الفني سيزداد الوضع سوءاً.
وانتقد الملاح نجوم الصف الأول، قائلاً إنهم “لو كانوا أذكياء لاستفادوا من شعبيتهم وفرضوا على جمهورهم أغاني محترمة لحناً وكلاماً وتوزيعاً وأداء، لكنهم يغارون من بعضهم وبمجرد أن تنجح أغنية لواحد منهم يركضون جميعهم وراء الملحن لكي يعطيهم مثلها، وبفضلهم تحول اسم العاصمة بيروت إلى العاصمة بغداد لأن الكل يريد أن يغني اللون العراقي والعاصمة طرطوس واللاذقية وساحل سوريا والقاهرة والخليج”.
الأغنية النجم
في المقابل، يقول الفنان وليد توفيق “نحن في زمن أصبحت فيه الأغنية هي النجم، وبمجرد أن تنجح يُطلب صاحبها إلى كل الحفلات، لكنه قد لا يستمر إذا لم يقدم بعدها أغاني أقوى منها، فمثلاً عندما انتشرت أغنية (ثلاث دقات) كان (أبو) هو الأكثر طلباً على الحفلات لفترة من الزمن لكن أين هو الآن. لطالما كانت الأغنية هي البداية لكن يفترض بالفنان أن يعرف كيف يختار أغانيه لكي يستمر ويصبح من نجوم الصف الأول”.
كما يرى توفيق أن الكاريزما هي العامل الأول في نجاح الفنان واستمراريته ويعترف “كثيرون يغنون أفضل مني ومن جورج وسوف لكن لا توجد شخصية في صوتهم، ثم يأتي دور الحضور والذكاء وأخيراً الغناء. كما يفترض بالفنان أن يكون موسيقياً وهذا هو سر نجاح عبد الحليم حافظ، ويفترض به أيضاً أن يحب فنه وألا يكون مجرد وسيلة للشهرة والنجومية. فالنجومية صعبة جداً وأنا أبذل جهداً كبيراً من أجل استمراريتي حتى أكثر مما كنت أفعل في الماضي”.
الذكاء أولاً
أما الناقد الفني طارق الشناوي فيشدد على أهمية الذكاء ويرى أنه “في القرن الـ21 لم يتمكن أي فنان من إزاحة نجوم الصف الأول، فهم أذكياء وعرفوا كيف يحافظوا على نجوميتهم وربما يظهر مطرب يحتل القمة لكن هذا الأمر لم يتحقق حتى الآن ولا يوجد مغن بقدر وقامة وقيمة نجوم الصف الأول الحاليين”.
ويضيف، “كمجتمع عربي، نحن لا نطوي صفحة القديم طالما أنه قادر على التجديد وأكبر مثال على ذلك أن محمد فؤاد كان نجماً حتى إنه نافس عمرو دياب في مرحلة من المراحل لكنه لم يعد موجوداً اليوم، وشخصياً يعجبني تامر حسني لأنه ذكي جداً وعرف كيف يراهن سينمائياً فقدم أكثر من 10 أفلام سينمائية وهو رصيد لم يقدمه أي مطرب بعد عبد الحليم”.