وديع شامخ  

لكي نفهم بعضنا ونعيش ونتعايش  بجمال وسلام ، لا بد  لنا من  معرفة المعايير والأسس التي تمثل دليلاً  وأساساً  لحوارنا  المشترك، وهي الأسس المنطقية لوجود الانسان  في محيطه،  والتي تساهم  في  تحقيق شروط الحياة الإنسانية  خارج قوانين الغابة ، وإن  أول شروط الإنسان في  فردوسه الأرضي هو قبول الآخر، وهناك محطات واقتراحات  لتمثل الشرط الجمعي في الحياة الإنسانية « القدرية ، الجبرية، الواقعية  ، الإحتمالية «، ولكل شعب وأمة ومجتمع مرتكزات أساسية  تؤشر لمدى تمدن وتحضر  شعوبها .
مؤشر التطور البشري هو تصنيف عالمي حيث تؤخذ مؤشرات مختلفة لتصنيف الدول بناء على تطورهم ، مثل «الدخل القومي الإجمالي ومعدل العمر والتحصيل العلمي « . تجمع هذه المؤشرات لترتب الدول حسب التطور البشري. والدول التي تمتلك تقديراً عالياً في هذا التصنيف تكون من أعلى الدول في التقدم والصناعة بين دول العالم. هذا المؤشر ممتاز للتعرف على دول العالم من حيث التطور البشري. هناك 47 دولة صنفت بأنها تمتلك مؤشرات تطور بشري عالية جداً وفقا  لهذا المعيار المادي الصرف .، ومن هذا  التصنيف خرج الينا التقسيم العالمي الى دول متقدمة  ودولة متخلفة « نامية»  ودول العالم الثالث .. الخ .
ولكن المؤشرات الإقتصادية والعلمية  ليست هي الوحيدة التي يمكن أن تؤشر الى مستوى تحضر ومدنية الشعوب من عدمها ، فهناك معايير جمالية روحية لا تقل أهمية عن المعايير المادية .
فمن غير السهل إعطاء تعريف جامع مانع   للمجتمعات  الإنسانية  و بيان المعايير الكلية  للتقدم أو التخلف ؛ و ذلك لإختلاف الثقافات و الرؤى و الأديان والمدارس الفكرية السائدة في المجتمعات، فلكل مدرسة تصوراتها و أهدافها و غاياتها و معاييرها التي على أساسها ترسم المجتمع المثالي الذي تسعى لتحقيقه.
فالتنوير الفكري الذي يخلقه  الفن والأدب  والفلسفة  يمثل معياراً مهماً  لحركة الشعوب الحيّة لمقدار تحضرها ، فإذا ما رأى الفيلسوف الألماني « عمانوئيل كانت:  بأن التنوير هو الجرأة في التفكير» ، فهذا يعني  أن هناك معايير محتملة قادمة من حقول  أخرى غير الإقتصاد والعلم  تؤشر الى  مقاييس الرقي والإنحطاط  لدى شعوب الأرض.
قديماً كان الأدب والفلسفة هما عنوانا اللحظة الأغريقية ،كما كانت بداية الفلسفة في المجتمع الاسلامي وجهود إبن رشد والفارابي، ثم  إبن خلدون في الإجتماع وإبن سينا في الطب والفارابي في اللغة والمتنبي وأبي تمام  في الشعر … الخ ،  وكما  وجدنا حديثا أوربا التي كسرت الجمود والإنغلاق الفكريين ومضت الى الأخذ بالعقل البشري  ونتاجه  الخلاق بعد كسر الهيمنة الدينية على الحياة .
لقد إختارت الشعوب لحظتها التاريخية من ذراها وقممها  في الحقول المتنوعة العطاء مادياً وروحياً وجمالياً   لتؤسس لمعاييرجديدة تمزج بين النمو الإقتصادي والتفوق العلمي والعملي مع معطيات العقل البشري في مجالات الفلسفة والفكر والفنون والآداب والعمارة  لتشكل هارمونياً  بمثل الصورة الأبهى لحياة البشر ، مقروناً بضرورة الحرية  والجرأة في التفكير .
التطور البشري  في المجتمعات الحيّة  الفاعلة  لا يقاس  بتراكم الثروات المادية  أو عدد المباني الشاهقة، والذي يمثل عقدة نقص واضحة  لدى العقليات الحاكمة وخصوصا في شرقنا العربي – الأسلامي ، التطور لا يعني  كثرة المهرجانات والإحتفالات الوطنية الصاخبة ، التطور  لا يعني الوقوف على إطلال السلف الصالح ،  التطور يقاس  ببناء دولة  المؤسسات  والدستور الدائم ، وإحقاق الحقوق المدنية  والحريات الشخصية ، وإطلاق الحريات الإنسانية في كافة الحقول ، بشكل يضمن نشوء مجتمع متوازن  لبناء دولة الإنسان أولا ً.
دولة الإنسان المقصودة هنا هي المعيار الجمعي لحاصل نتاج بيدر العقل البشري في كافة الحقول ، متبوعاً ببصيرةٍ واعية ٍ وحريةٍ وافرةٍ تتيح للجميع استنهاض  طاقاتهم العقلية الى أقصاها ، واستثمار طاقات الطبيعة الى حدودها  القصوى ، دولة الإنسان هي ضمانة أكيدة  لبناء دولة مدنية وحضارية معا ، لا ترتكز على أوهام  الماضي وعظمته فقط ، إنها الدولة الحركية نحو الأمام ، دولة الإنسان بمزاجه المتنوع والمتجدد ، دولة  تسير الى الأمام  ولا تلفت، دولة مبنية  من عطاء عقول بناتها ،  وقدرتهم  على التعايش  مع اختلاف أصولهم وفروعهم ، دولة الإنسان تفرض  العيش المشترك بلا سيادة  للأكثربة ولا  أقنعة للأقلية .
دولة الإنسان  تشترط إقتصاداً حراً  فاعلاً  يكفل  للإنسان ، سوقاً للمنافسة وورقة لكتابة قصيدة ، خمرا وخبزا وحرية وكرامة .
دولة بلا أوهام ، لا يؤرقها  الماضي  كثيرا ولا يضيف لها ألقا ، دولة مندفعة  للأمام ، تطير بكامل أجنحتها ، الإقتصاد ، العلوم، الآداب، الفنون ، الفلسفة ، الفكر الحر .
دولة الإنسان هي الواحة النقية للتعايش والأخاء بين بني البشر دون شعور بأية عقدة نقص أو زيادة .

wadea@anoujoum.com.au