وديع شامخ
تتشكل الطبيعة الإنسانية من عوامل شتى، منذ بزوغ صرختها الأولى الى عالم الطبيعة وقطع حبل سرها مع الرحم المكين، فلكل حياة شروط ووقائع .
الخروج من ظلمة الرحم الى الفضاء القصي للضوء والحلم لا يفترض القطيعة نهائيا وإن قطعَ الكائن حبله السري ورماه وترك الرحم ولن يعود له .
لاشك أن النطفة التي ذهبت مسرعة للفوز ببيضة الأنثى لا تفكر بآلاف الحيامن في ماراثون الوصول الى تاج الحياة .
لحظة مارقة وجنون، لهاث سرير يوقد للحياة جذوتها، كلها عوامل تحترق لتكون مشعلاً للكائن وهي يخرج من رحمة الرحم الى دياجير الحياة ومكائدها معا .
للحياة بداية ونهاية، وفصول تتلازم في ما بينها لتكتمل دورة استحالة الكائن،ولعل مايثري المقال هنا تشابه دورة استحالة الكائن بدورة الحضارات ونشوئها وانهيارها .
الإنسان ممثل الحضارة الأول،وحامل سيميائها وتحولاتها، وهو عنوانها وشرفها وداؤها وداؤها .
يخلص الفيلسوف الاجتماعي والرحالة الكبير ابن خلدون في كتابه المهم “ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر ..”الى حقيقة مفادها إن” للدول أعمار كما للأشخاص أعمار، لا تتعدى مائة وعشرين عامًا، وتمر بثلاثة أجيال: الخشونة والبسالة في المجد، والترف والإنكسار وضعف العصبية، والترف والعجز عن المدافعة إانقراض الدولة“
وللانسان مثلها إجمالا، فكيف يتمثلها ادواراً .. هل هي خيارات حرة أم أقنعة ووجوه ؟
الإنسان حامل شعلة الحياة يقف عند مفترق طريقين وهو ينشطر في خياراته بين أن يكون إنسانا وبين أن يكون شبحا!! .
أن يكون إنساناً، يعني وعيه في دورة إستحالة الحياة وتمثلها بابداع وخصوصية وتفرد، لكي يكون إنسانا ذو أبعاد متعددة، منفتح على الحياة بأفقها العام وله لونه وصوته وقامته وأحلامه، وبين أن يكون الإنسان ذو البعد الواحد، الشبح، البوق، الواحد المساق في قطيع .
خيارات الإنسان تشير الى وعيه للوجود، الى أسئلته التي لا تصدأ، الى دهشته المستديمة، جرأته الواخزة، حيويته في الابتكار والتجدد، إنسانيته المشرقة، نوافذه القصية على الآخر، كائن الخيارات هو حواري بامتياز، ولا حجة دامغة له، ولا يقين .. إنه دائم التلمذة في مدرسة الحياة .
الأقنعة تعني الطرق المسدودة، اليقين القار، حنجرة القطيع، لهاث خلف السراب، صمت الفضة بثمن الذهب، الإنكفاء حول الشروط، الذهاب الى النفق بكامل العبودية. .
الأقنعة تلدُ أقنعة ومكائد ودسائس، تُفقّس أكياسا سوداء لتكميم الرؤى، وهي حاضنة أمينة لجلد الذات والركض وراء سراب النهايات .
الكائن ذو الخيارات يحيا وصاحب الأقنعة يجيد صناعة الموت بحرفة عالية، الحياة بمعنى الولادة الوجودية للسؤال، والخلود بتناسل المشاعل، بينما الأقنعة مقبرة عامرة بالصمت والعويل ..
الإنسان الحقيقي خُلق لكي لايكون نسخة من آخر حتى مع توأمه، حتى مع كل سلالته، رغم وجود تشابه جيني وشكلي معلوم، فلكل كائن بصمة خاصة به، عليه أن يعي أنه خرج من الرحم وحيداً وبصرخة خاصة، رغم إنطلاقه لمسيرة الحياة المتعددة الخيارات .
حرية الكائن من عبوديته هي قرار فردي أولا لأن البدايات واحدة وخط الشروع واحد،
ومع تباين الظروف والحاضنات، وكثرة المغريات والعصي والجزرات، وتكالب الموضوعيات على سلب حرية الشخص، وانسياق القطيع الى نفقه وصوت الرعاة، تبقى للإنسان مسؤوليته وخياراته، أحلامه، وجنونه.. ثورته الداخلية على المحيط المطوق بالسياط .
الحضارات هي سؤال الإنسان ودرسه المديد، وإن تشابهت شكلياً في أدوار استحالتها معه، فلأنه صانعها بحريته، وابداعه ونزوعة للتعايش مع الآخر وفقا للخيارات وليس الأقنعة ..
عندئذ يكون الإنسان والحضارات توأمين مشعين يتبادلان شعلة الحياة بوفرة وجودية عالية.