في الطريق من القاهرة إلى مدينة الإسماعيلية لحضور مهرجانها السينمائي، اصطحبت معي كتاب عزيزي السيد كواباتا للكاتب اللبناني رشيد الضعيف. كانت هذه قراءتي الثانية له، لكن هذه المرة أتمعن فيه ببطء، متزامنًا مع مرور خمسين عامًا على اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. بعيدًا عن صخب القاهرة، تحتضن الإسماعيلية هذا الحدث السينمائي بين 5 و11 فبراير، برئاسة المخرجة هالة جلال، ليصبح فضاءً لعرض أفلام وثائقية تبحث في الذاكرة والتاريخ المنسي.

يبرز هنا التناقض بين مكان إقامة المهرجان وأفلامه، فهو يحتفي بالتوثيق، بينما يعيش في مدينة هادئة، تكاد تبدو خارج الزمن مقارنة بالقاهرة الصاخبة. الفيلم الذي أتابعه يمتد على مدار 150 دقيقة، ومنذ لحظاته الأولى، يكشف عن أسلوبه البصري والسردي، والذي بدا لي أنه كان بالإمكان اختصاره دون التأثير على محتواه.

يقدم الفيلم مقاربة جديدة نسبيًا في السينما العربية، مستلهمًا أسلوب المخرج الكمبودي ريثي بان في الصورة المفقودة، حيث استخدم الأخير نماذج صلصالية لسرد ذكرياته عن حقبة نظام الخمير الحمر. بالمثل، تستعين المخرجتان فداء بزري وسيلفي باليوت بالماكيتات المصغرة وتقنية ستوب موشن لتجسيد لحظة اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. مقارنةً بالفيلم المغربي كذب أبيض، الذي صدر قبل عام، يبدو هذا العمل أكثر إحكامًا من حيث تنفيذ التحريك والإخراج، حيث امتزجت الواقعية بالخيال، ما منح الفيلم بعدًا بصريًا مميزًا.

يركز الفيلم على لحظة حمل مختلف الطوائف في لبنان للسلاح ضد بعضها البعض، ليطرح سؤالًا جوهريًا: من المسؤول؟ عبر استرجاع ذكريات الطفولة، تعيد فداء بزري النظر في قصص جدتها عن “الجحيم الأحمر”، محاولة فهم قيمة الحياة وسط الصراع. تسائل الجميع، دون استثناء، مما يعكس شعار الانتفاضات اللبنانية الأخيرة: كلن يعني كلن.

ومع ذلك، يطرح الفيلم خطابه بطريقة حيادية إلى حد التعميم، حيث يبدو وكأنه يرفض اتخاذ موقف واضح. هذه المقاربة تجعل العمل أقرب إلى توثيق متجاوز للزمن، لا يضيف جديدًا للمشاهد، بل يعيد طرح الأسئلة دون محاولة تقديم رؤية تحليلية أو تفكيك معضلاتها. وهذا ما جعلني أتساءل: لماذا هناك مخرجتان إذا كان الخطاب منزوع المعنى؟

بين الإدانة والحياد

يبدو خط التماس أقرب إلى مجموعة من المشاهد المتفرقة، غارقة في تساؤلات ذاتية، دون أن تسعى إلى تحليل أعمق للمسببات أو طرح إجابات جديدة. يحاول الفيلم تفهّم جميع الأطراف، لكنه يتجاهل تناقضاته الداخلية، فلا يتورط في خطاب إدانة حقيقي، ولا يتجاوز كونه استعراضًا بصريًا محايدًا إلى حد كبير.

“خط التماس” هو تعبير لبناني يعكس موقف الفيلم، فهو يوثق الصراع دون أن يغوص فيه. لا يمنح المتفرج رؤية متجددة، ولا ينحاز لقضية بعينها، ما يجعله في النهاية عملًا توثيقيًا ذا قيمة أرشيفية، لكنه يفتقد للجرأة في الطرح. ورغم ذلك، فإن حضوره في مهرجان الإسماعيلية يظل أمرًا إيجابيًا، خاصة في سياق مهرجان طموح يسعى لإعادة إحياء الأفلام الوثائقية، رغم قلة الإمكانات.

الفيلم يطرح خطابًا تطهريًا يسعى لمساواة جميع الأطراف في المسؤولية، لكنه لا يتطرق إلى العنصر الأكثر إدانة في الصراع، حتى لا يوجه اتهامًا مباشرًا لإسرائيل، في وقت لم يتجاوز فيه لبنان بعد إرث التوترات الطائفية والسياسية. هذه الإشكالية تجعل الفيلم محاطًا بشكوك حول جدوى طرحه المتكرر لهذه التساؤلات دون سياق نقدي واضح.

وفي النهاية، وجدت نفسي أستحضر كلمات رشيد الضعيف في كتابه، حيث يقول:
“أعدك بأني لن أسمعك بكاء، ولن أشكو، ولن أعرض عليك آلامي، ولن أتذمر من الأحوال السيئة التي أوصلتني إليها الأيام… ولن أنتفض ثائرًا على الظلم والقهر، حاملًا إليك آلام هذا الشعب المسحوق تحت وطأة أقدام الأنظمة الرجعية العميلة للاستعمار والإمبريالية والصليبية الجديدة.”

وكأن الفيلم يسير على الخط نفسه، متأرجحًا بين الاعتراف بالألم وعدم تقديم ثورة حقيقية في السرد السينمائي.