كهف الخفافيش – تايلاند
دينا سليم حنحن – بريزبن
الليلُ ناعم، عادة تزورُه الخفافيشُ وتسلبُ من عينيَّ النوم، تزيد حركتها على شجرة المانغا في حديقتي، اعتدت عليها، وسبق أن ذكرتها في واحدة من رواياتي، لكن يبقى الخفاش محط الأنظار، وسالب أفكار العلماء، خاصة بعد الفرضية التي شاعت بأنّ هناك حيوانا يتوسط بين الإنسان والحيوان وينشر الأوبئة، وعندما شاع وباء كورونا المستجد، اتجهتِ الأنظار نحو هذه الفكرة، وبدأت الادعاءات تتوالى.
لكن، هل تدرون أن هناك خفافيش آدمية أيضا؟ لا أقصد الأفلام التي خرجت من هوليوود، مثل باتمان، أو الرجل الوطواط، وبالمناسبة، فهذه الشخصية الخيالية، ظهرت في كتب مصورة، ابتكر الشخصية مؤلف رسوم أمريكي يدعى فيل كنغر، وهو مبتكر شخصية سوبرمان أيضا، ثم خرجت الفكرة إلى النور سنة1939 .
سوف أقودكم إلى تايلاند، خلال رحلة بحرية، هناك حيث نثر المرشد السياحي فتاتًا من الأسماك الجافة، فلحقت بزورقنا طوابير من الطيور الجارحة. قال لنا على سبيل الدعابة:
“قولوا تعالي، وسترون كيف ستلحق بنا الطيور أرتالا”.. خدعة ابتكرها ليضفي على قلوب السياح الفرح، يشجعهم فيها على زيارة بلاده ثانية، إذ أن تايلاند تعتمد كليا على السياحة البحرية، لكن معلومة أفلتت من فيه، فما كان مني إلا أن التقطتها لأبدأ بعدها رحلة بحث مشوقة!
همس في أذني: ” تعيش هنا خفافيش آدمية، تنام في النهار، وتعمل سرّا في الليل”، جرجته بالكلام وطلبت منه شروحا، وبعد محاولات كثيرة، أخرج البحصة من فمه وقال: ” يقوم هؤلاء بجمع براز الخفافيش على شكل وجبات، ويحفظونها طازجة، وطرية داخل عبوات خاصة، يذهب بها الغواصون إلى مصانع مختصة بتغذية البشرة، حيث يجهزون من الفضلات مرطبات للوجه، ومساحيق تدهن على ظاهر الأكفّ، ومن كف اليد تتوزع إلى سائر الجسد، تباع للأثرياء، والمهووسين بإطالة عمر الجمال، ينذر العمال المساكين أنفسهم من أجل لقمة العيش خدمة للأثرياء، ولا يخرجون نهائيا من الكهف كي لا تتسرب الأسرار” .
في تايلاند أبحرتُ إلى منطقة تدعى سيمولاند، تتكوّن من تسع جزر نائية، تجولت في خلجانها النقية، وفوق شطآنها الجميلة المهيأة للتنزه والسياحة، ورأيت القرود تتجوّل في بعضها. من السياح من تسلّق مرتفعات كانت هناك، ومنهم من دخل كهفا في جزيرة أخرى ناشدا مغامرة لا تنسى.. جمال عذري وسحر طبيعي، تعالت الموسيقى التي انبعثت من قوارب السياح عند العودة، وفي الليل طغى على المكان أصوات أخرى، أسست الطيور الجارحة لها أعشاشا داخل الكهوف النائية والمظلمة، كما أنّ الخفافيش استقرت في كهوف معتمة، تأهلت جزيرة أخرى بالسكان الخفافيش، (كما أطلقت عليهم)، عملوا في جو بارد داخل شقوق تطل على تعرجات جبلية تحيطها المياه، عمّال مجهولون عملوا بكدّ وبحركة بطيئة لا تزعج الحيوانات التي تنتمي إلى الثدييات، أعمال شاقة محكومة بظروف عمل قاسية لم يتطرق إليها الإعلام كثيرا.
عدنا إلى المدينة بعد يوم شاق ومرهق، تناقل العمال فيما بينهم جملة شرحت الظروف القاسية التي يعانون منها في بلاد فقيرة، قالوا: ” إن لم تتألم لن تبقى على قيد الحياة “.
مساء، ذهبنا جماعة، وبحثنا عن مطعم نتناول فيه وجبة دسمة تعيد إلينا الطاقة المبذولة، دخلنا سوقا شعبية قدّمت مختلف أنواع الأسماك والنباتات البحرية، وصلنا سوقا أخرى فيها أنواع أخرى من مأكولات لم تخطر على بالنا، لحوم تماسيح إلى قواقع وحشرات وصراصير.
سؤال ينتظر الإجابة، هل فعلا هذه الأنواع التي يتناولها الشعب التايلاندي، وسيط بينها وبين الأمراض والأوبئة؟
وقفت مواطنة محلية أمامي، وأخذت تشرح لي الأنواع المعروضة، وهي تلتهم ما يحلو لها من الصراصير، وتصف لي لذة طعمها، ونكهتها، تذكرت حالا صاحب محل في أستراليا، يقدّم الأسماك المقلية، وقد أخبرني أن أحمر الشفاه الذي أطلي به شفتيّ مصنوع من الزيوت المحروقة التي تخرج من مطعمه، يقوم بتجميعها في إناء كبير خاص بها كل أسبوع، وتأتي جهة تهتم بالمساحيق لأخذها.
كم نحن على تماسّ مع الأوبئة! تُرى، هل ستعلن النسوة الإضراب عن أحمر الشفاه يوما؟
العطور تكرير لمياه المجارير، كما سبق أن قال لي أحدهم، وصابون “كاميه” بالذات أيضا.