وديع شامخ
لابد من الاعتراف أن البشرية على كوكبنا الأرضي تواجه أشرس حملة جماعية للموت المجاني في خانة الأوبئة والفايروسات، والجراثيم والمكروبات طوال حياتها المعاصرة بعد البلهارزيا، والطاعون، والكوليرا، وجنون البقر، أنفلونزا الطيور، سارس، الخ.. حتى أن كورونا هذا استحق لشكله أن يعتلي عرش الفايروسات حقا ليهدم عروشا، وينزع قلنسوة المجد، والقداسات من ذوي التيجان، وأصحاب السمو والرئاسة والإمارة.
…..
قيل في أمر كورونا الكثير وتخاصم الفقهاء في سببه، فأصحاب نظرية المؤامرة لهم القدح المُعلّى في وجود أمريكا صانعة الشر العظيمة لتطيح بالتنين الصيني، وتسحق كبرياءه الاقتصادي المخيف كجزء من الحرب الجرثومية الخفيّة، وكذا كان للبعض رأي في ترجيح صناعة الصين له لتحقق ضربة معلم في شراء الاستثمارات الغربية، والأمريكية بثمن بخس وفّر للحكومة الصينية ما يعادل 30 مليار دولار، لنشر الصين الرعب في بيئة الاستثمار !وهناك رأي لا يخلو من وجهة نظر واقعية ترى أن السبب يكمن في وجبات أكل الشعب الصيني لوجبات تحتوي على الأفاعي، وحساء الخفافيش! وهناك أصحاب النظرة الدينية الإسلامية التي لخصت الأمر كقضاء إلهي على الكفار الشيوعين في الصين!..
ولكن السحر مضى إلى قدس أقداس الإسلام الإيراني في مدينة قم، حيث أصابها في مقتل عميق، وهناك من أيقن أيضا أنه ابتلاء إلهي للإنسانية الغارقة في عالمها المادي حد الجنون، وهناك من وضع الفايروس في محل الكارثة الطبيعية، وراح يبحث عن الحلول، والعلاجات في منطق علمي مختبري دقيق مؤجلا السفسطة في الأسباب ودواخلها العميقة.
………..
كورونا حطمت كبرياء الدول العظمى، وأعادت العظيم إلى وضاعته الإنسانية، كورونا حققت ما لم تحققه ثورات فكرية في نقد المقدس وإقصائه من الحياة البشرية، وفحصه كأي نص قابل للتأويل. كورونا جردت المقدسات من قداستها وأخضعها العقل العلمي إلى التعقيم والمنع والحجر.
لم يحدث أن قدس أقداس المسلمين في « كعبتهم « وقبر نبيهم، أن يخضع إلى هذا الإجراء الوقائي بمنع فريضة تمثل أحد أركان الإسلام العقائدي، وهي الحج، والعمرة.
كما هو حال بابا الفاتيكان، وهو يمشي في مدينة روما الخالية من الناس لوجود الحجر ليقيم قداسه الشخصي، ويصلي للعذراء، والمصلوب يسوع على نية الشفاء من الوباء، وكورنا يتجول حاجرا أكثر من 60 مليون من الشعب الإيطالي. البابا بلا رعية للصلاة، والكعبة ممنوعة على المسلمين، والمزارات المقدسة تتعرض لرش المبيدات كأي أماكن موبوءة، أو حاضنة للوباء.
أليس هذا يذكرنا بزوال قيمة المقدس حسب المفكر الفرنسي « ليفي شتراوس» عندما يزاح مكانيا، ولكن المصير الآن هو المقدس في مكانه، ويخضع إلى تحرٍّ عقلي وفحص علمي؟!
اليس تعطيل فرائض دينية مقدسة في الأديان، وإبطال عقائد مذهبية في الزيارات المليونية لمراقد، وأضرحة مقدسة عند الشيعة في العراق وإيران هو انتصار للعقل العلمي قبالة الجهل المقدس، وهو جهل لا يتعلق بالعقيدة روحيا ولا فكريا، بل يذهب إلى إعلاء شأن الطقوس والتقاليد على رسالة الدين بوصفها رسالة روحية وإنسانية. كورونا حطمت عرش الجهل المقدس.
………..
كورونا حقق ثورة في المصطلح، بما أثاره من ذعر وخلخلة في اليقين، خلق حساً ثوريا في المساواة بين الملوك والعامة. كورونا ألغى تأريخ أفلاطون في جمهوريته، والفارابي في مدينته الفاضلة، وختم على قلب ماركس في دورة العبيد، ورأس المال.
كورونا خلق القلق مادة الشك وصنوها الإبداع، فما عاد اليقين خلوة يومية لإله من حجر
………..
كورونا خلق مناخاً للمزاج أن يطلق بالونات السخرية من القوة، ومدادها، فصار العطاس قوة مفرطة في القلق ، فكان للمخيال الشعبي أن يقاومه بسحر آخر، فجاء
« يا عطّاس، يا ابن الكورونا»
عطس الناس في الحكاية والتأويل ماثل.
…………………
في واقعة التحدي والاستجابة التي طرحها « توينبي « في التأريخ، كورونا لم يسمح للنهايات أن تمضي إلى حتميتها.
كورونا كان عصا في مقام الرعاع مثل عصيات كوخ،
مثل كلّ هرطقة، وبدعة يمضي يقين العامة إلى التسليم بها، وكورونا ماكر في فحص الرداء الأول لفداء الله
للبشرية.
ترى كم تفاحة ستسقط على ضلع أعوج، وكم أفعى ستنسج من جلدها خرافة ليقين ملتبس؟!
……………..
كورونا سر أبدل الناموس بالإنسانية ، كسر قيود الكائن المأسور بجنون عظمته
كورونا سرير للتأمل في وحدة الوجود، سر الخالق وعبث المخلوق،
كورونا حيلة كونية تواطأنا على إداراكها قبولاً وخوفاً وجزعاً.
كورونا سؤال مؤجل لوجود رخو!