كلمة رئيس التحرير/ وديع شامخ
تجتاحنا فورة غاضبة من بقايا الربيع العربي والمتمثلة في كنس بقايا الأصنام السابقة ومخلفاتهم معا ، ولكن التركة اثقل من أفق التوقع ، ورحيل الجنرالات لم يكن عرسا بريئا .
كان المفترض والواقعي والمنطقي وفي مرحلة ما بعد الدكتاتوريات أن تكون هناك مراجعة نقدية شاملة في كل حقول الحياة التي عبثت بها نار السلاطين ، ومسخت خصوصيتها شمولية ورعونة الانظمة آنذاك.
< < <
وهكذا جاءت رياح التغيير كعصف نووي بليغ فتوارت التيجان وذهب السلطان ، واختفت مظاهر السيادة واندحرت القوة لمصلحة الارادة ، بتكافل وتعاون بين الظروف الداخلية وظهيرها الحاسم المتغير الدولي ، ورضي الطرفان في العقد الجديد ، وكان لهذا العقد أن يكون مقدمة صالحة لبعث حياة جديدة وقطف ثمار الثورات في مواسم الشعوب كلها .
< < <
وتحقق الشرط الأول وأوفى الشريك والفاعل الخارجي بشروطه فازاح الظلمة واسقط الديكتاتوريات التي صنعها سابقا وبعقد آخر ، ولكننا عجزنا عن توفير البديل الند لخلل ماثل في بنيتنا الفكرية ، وقصورنا على تفهم المرحلة الجديدة وما تفرزه من قوة للنقد وليس من طاعة تالية للتبرير .
< < <
الأصنام السابقة كانت تجيد وبمهارة عالية صنع « مثّالين» محترفين وهواة لاستنساخهم في الفكر والروح قبل الواقع ، ومع المثالين ازاميل وصنوج ودفوف ، فلهم في كل فصل رقصة ، وفي كل صيحة صنم مسوغات للعامة والخاصة معا .
الاصنام احسنوا صنع وخلق اشباههم في القوة والسلطة والواقع والمخيلة معا ، فانتجوا خطابا كابوسيا محكما- شرطيا داخليا – ، تتعاون على نسجه ، الضحية والجلاد معا في حلبة الحياة .
< < <
ولعل من عهر الاصنام أن وراثتهم اصبحت شرطا ، وراياتهم لم تنكس ، والعهود الجديدة محض اجترار لحكاية عرجاء ، اصوب ما فيها تغيير الشرط الخارجي وأسوأ ما تتركه جمرة تتقافز في المواقد بلا دفء وبرماد يلوكه العامة كل حين .
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
كما يذهب المتنبي الشاعر الذي أرسى مفهوم المثقف « الميكافيلي « مع الكثير من الشعراء في التراث العربي ، حتى ورثناه ولبسناه حسب الفصول ومزاج المتغيرات، فصار بديل السلطة وظهيرها ليس الحاكم المزاح والسلطان الراحل بل القناع الذي يسوغ للحياة ان تستمر خاملة في حفلة تنكرية
فعندما يذهب السلطان تبقى الآذان والحيطان عامرة في صنع « المثالين « وصناع الاصنام ومحترفي بري الازاميل العمياء ..
< < <
عندما يغيب السلطان ، الانسان ، وفق نظرية العقد الداخلي والخارجي المتغير ، وليس ممارسة حياتية لنضوج شرط الثورة والتغيير بصورة كاملة، سيكون للنموذج المزاح ظلال هائلة من القدرة على التكرار والخفاء والتجلي ثانية .
فاذا ما غاب السلطان ومات العسس وتداخلت الفصول ، فمن هو الفاعل في الاجترار ؟
اجترار الخطاب وتثبيت احقيته وتبرير عودته بأقنعة جديدة ، لا تضر الفاعل الخارجي ولا تمس مصالحه ، ولكنها تلعب دور القراد الذي يرقص قرده ويضحك من حوله في لحظة سهو تاريخية لغرض عودة الأصنام بهدوء وخفة .
< < <
تاريخيا لا يمكن اعادة الزمن ، ولا يصح علميا استنساخ السلاطين ولو كانت رغبة الطبالين والمثالين والقرادين ، وسياسيا لا يمكن الخلود في الكراسي ، فكم من طاغية تنازل عن الكرسي ولن يتنازل عن البيعة والعهد الأزليين ..
ولعل خير سفير وممثل بارع لحفظ هيبة هو المثقف بكل حقوله « الشاعر ، الممثل ، الموسيقي ، الراقص ، المفكر ، الطباخ ، القرّاد ،النحات ، الراوية … وكل من تهافت في القول والنيّة»
هذا ، واعني هؤلاء هم الذين سيضعون العصا الكاملة الدسم في دولاب الحياة لا لكي تقف ، لانهم اعلم ان الوقوف سم آخر لا تطيقه الشعوب ، ولكنهم يستمرون في تزييت العصا والعربة لموائمة جديدة .
< < <
لقد شرع المتنبي الشاعر عقدة وعقيدة في مفهوم العلاقة بين الشاعر والسلاطين ، وعندما فشل في تحقيق شرطه الذاتي وطموحه خارج نطاق الشاعر الموالي المداح ، لم يكتسب عنفوانه اجازة مروره لغير هذا الدور ، فمات كمدا في سيف « داعشي ارعن «.
ولكن موت الطاغية ليس كموت الشاعر ، فخلود الشاعر رمزيا يورث خلودا محايثا لسوط الطغاة ووجوده الدائم بتبادل الأقنعة .
< < <
هذا ما حدث تماما عند انزياح الشروط في الحياة التي شهدت ثورة الربيع لازالة الدكتاتوريات،
فقد اعلن الطرف الخارجي اخلاصه للشرط ولكنه كان وفيا جدا لظلاله الباقية ، فلم يذهب الطغاة تماما عن ربيع الحياة بل زرعوا في الورود اشواكا وفي الحناجر صرخات وفي الاحلام كوابيس .
ولعل من جاء بعدهم كان أمينا جدا في تطبيق شروط العلاقة المختلة انسانيا واخلاقيا وقانونيا .
< < <
مثقفو « نصف كم « ورثة الشاعر المتنبي ، كانوا الولاة الجدد لتبرير القحط المزمن في الحياة ، واوغلوا فيه حتى كانوا في وفرة دائمة في كل زمان ومكان ..