بين شوارع القاهرة العتيقة وجبال لبنان الخضراء، سطعت روح مي زيادة، التي نحتفل اليوم بذكرى ميلادها في عام 1886. كاتبة وأديبة خطفت قلوب كبار أدباء عصرها، ولدت لأب لبناني وأم فلسطينية، ونشأت في مصر لتصبح رمزًا بارزًا في الفكر والأدب العربي. لكن هذا الانتماء المزدوج يثير سؤالًا دائمًا: أين تكمن هويتها الحقيقية؟ هل هي مصرية بتأثيرها وحركتها الأدبية، أم لبنانية بأصلها وجذورها؟

لبنان: مهد الطفولة وجذور الثقافة

ولدت مي زيادة عام 1886 في الناصرة، التي كانت جزءًا من لبنان العثماني آنذاك، لعائلة مثقفة تحرص على الثقافة واللغات. نشأت في بيئة أدبية غنية، حيث كان والدها، إلياس زيادة، صحفيًا يملك صحيفة عربية، مما غرس فيها حب الكتابة والفكر منذ صغرها. تعلمت الفرنسية في لبنان، وأتقنت لغات أخرى، مما فتح لها آفاق الأدب العالمي. لكن على الرغم من جذورها اللبنانية، لم تشهد بيروت أو الناصرة صعودها الأدبي، بل كانت القاهرة مسرح مجدها.

مصر: أرض الإبداع والشهرة

عندما انتقلت مع عائلتها إلى مصر، وجدت مي زيادة نفسها في قلب الحركة الثقافية والفكرية العربية بالقاهرة. درست في الجامعة الأهلية، وبدأت بنشر مقالاتها في الصحف المصرية، خاصة جريدة “المحروسة” التي كان يعمل بها والدها. لكن أهم محطاتها كانت صالونها الأدبي الشهير، الذي استقطب كبار أدباء ومفكري عصرها، أمثال طه حسين، والعقاد، وأحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي. لم تكن مي مجرد مضيفة، بل كانت شريكة فكرية مؤثرة، مما رسخ مكانتها البارزة في الوسط الأدبي المصري.

بين لبنان ومصر: وطن بلا حدود

رغم تألقها في مصر، لم تنقطع علاقة مي زيادة بلبنان. كانت تزوره بين الحين والآخر، وتبقى على تواصل مع مثقفيه. لكن المفارقة أن لبنان، الذي حملت جنسيته، لم يكن مسرح مجدها، بل شهد سقوطها المأساوي. فبعد فقدانها لوالديها وجبران خليل جبران، ومعاناتها النفسية، لجأت إلى لبنان بحثًا عن الدعم العائلي، لكنها وقعت ضحية للخيانة، حيث وضعها أقاربها في مستشفى للأمراض العقلية زورًا.
أما مصر، فكانت وطن إبداعها، لكنها عاشت فيها وحيدة بعد خروجها من المستشفى، حتى وفاتها عام 1941 في صمت، وكأنها لم تكن تلك الأيقونة الأدبية التي أبدعت هناك.

مي زيادة: إرث خالد

بعد مرور أكثر من ثمانية عقود على رحيلها، يبقى السؤال قائمًا: هل كانت مي زيادة لبنانية الأصل، أم مصرية بالتأثير؟ ربما لم تكن مي نفسها تعترف بحدود الوطن، فروحها تجاوزت الحدود الجغرافية والهويات. مصر كانت مسرح إبداعها، ولبنان مهد طفولتها ومكان نهايتها. وبين البلدين، بقيت روحها خالدة، أيقونة أدبية عابرة للحدود.