روعة درويش

في المقهى الهادئ الذي اعتدت الجلوس فيه والكتابة ، وعلى نفس طاولتي الصغيرة المستديرة في الركن الخافت الضوء جلست بانتظارها  في الموعد الذي اتفقنا عليه تمامًا وصلَتْ يسبقها عطرها الباريسي، بدَتْ لي أنثى جميلة تتدلى على جبينها خصلة من شعرها، و الباقي مصفف بعيدا عن كتفيها مربوطًا  بوشاح حريري صغير ..ترتدي ثوبًا مزهرًا صيفيًا بألوان هادئة، بأكمام ثلاثة أرباع كأثواب الستينات، تشبه نادية لطفي أو جميلات السينما في الزمن الجميل الماضي ..رحبت بها ، وجلسنا ..
ارتجفت قلقًا ولم تطلب شيئًا من الساقي بل لم تره واقفًا ينتظر وهمست في بحة تقطر حيرة، واسترسلت في حديث الهاتف وكأنه لم ينقطع :
_ أنت وحدك من يشعر بي لأنك أنثى تشعرين بالأنثى وتؤمنين بها وتدافعين عنها فاكتبي وجعي ..
وتمتمتْ وكأنها تكلم نفسها أو تحاول أن تتذكر من أين تبدأ …
_ ماذا أريد من الرجل؟ أريد رجلًا يفهم الأنثى في الخمسين ..ويدرك أنها مكتملة الأنوثة .. ويحترم  خيارات شخصيتي  وخيارات جسدي، أريده أن يفهم ماهو حنين أنثى عرفت رجالًا ولم تجد رجولة …
أريد رجلًا يقرأ حروفي وهي مازالت تتثاءب في السرير ولم تنهض بعد ..أريد بيتًا يضمني معه ، أريده شريكًا آناء الليل وساعات النهار  ويمنحني السعادة عمدًا ، فلا يقتنص الحب مني قنصًا .أريد رجلًا يصحو على فنجان قهوة من يدي ..ثم يغادرني مبتسمًا ..يكلمني مرة قبل الظهر ومرة بعده ، ويقول لي : اشتقت إليك .. ويأتي ظهرا من عمله ويقول لي من على الباب :
– ما هذه الرائحة الجميلة، ماذا طبخت لنا يا ست الكل ..

أريد أن أرتدي  حذائي العالي ذو الكعب (9) دون أن يسألني أحد: أين سترتدي هذا الحذاء .. ولماذا تشتريه …أريد رجلًا يجلس أمامي ويراقبني بإعجاب ودهشة طفل صغير وأنا أضع طلاء الأظافر الأحمر على أصابع قدمي، إصبعًا إصبع ..أريد رجلًا يدعوني أحيانًا إلى العشاء في مطعم تعزف فيه سيدة نحيفة تلبس فستانًا أسود بلا أكمام، تجلس مشدودة الظهر إلى البيانو الأسود في الركن البعيد وتعزف موسيقا لموتزارت …وقبل أن نخرج ، يرتدي عطر الأراميس، حتى إذا ما دخّن  غليونه أو سيجارًا كوبيًا  …اختلط الدخان بعطره .. لا أحب ربطة العنق، فلا أمانع إن خرج بدونها ..أريد أن أجلس قربه في المطعم لا أمامه ..وأطلب البيرة التي أحبها وتضحك عيناي في سكرٍ خجول بنصف قدح منها ..ويكمل الكأس عني وأنا أراقبه بسعادة ..وقد أطلب كأسًا من الماس .. الشمبانيا كما أحب أن أسميها ..والأغنية التي أحبها لكيني روجرز ( ليدي ) فيلمح رغبة الرقص في حركاتي:

_ هل نرقص ؟!!
_ وأهمس بنغمة : نعم نعم .. نعم ..
ونرقص .. وسأتبع الخطوات التي يراها مناسبة للألحان وأحاول ألا أخطئ فأدوس على قدمه …!ثم نمضي في طريق العودة ويداه تطوقني .. بحنان ..أريد أن أرتدي ثوب نوم جميل يجعله يرفع عن عينيه نظارة القراءة ويضع الكتاب جانبًا وهو يقول :
ماأجملك حبيبتي !!..
ربما هي الجنة ما أطلب هنا لكني أعده الجنة أيضًا ..أريد رجلًا يستحق مشاعرًا كنزتها منذ طفولتي لرجل يستحق .. وماالتقيته بعد .
أسندت ظهرها إلى الكرسي وكأنها استراحت بعد أن أفرغت حملًا كان يثقل قلبها ..وقالت : أشكرك جدا، وحلقت بنظرها إلى الأفق وعلى وجهها إشراقة جديدة وابتسامة نصر .. على ذاتها .. ثم نادت على الساقي: قهوة تركية لو سمحت.