مجلة النجوم – سيدني
القصة قصة نجاح. ليس نجاحاً عادياً. لم يأتِ على طبق من ذهب. الوصول إلى العالمية بكتاب عن الذكاء الاصطناعي عُد “الأفضل بين عشرين كتاباً في كل الأوقات” ليس بالتأكيد وليد ضربة حظ. الدكتورة المغربية فاطمة رومات صنعت الفرق هنا. تتحدث في مقابلة مع “النهار العربي” عن دروب الأشواك قبل تلك المُتوجة بالورود والنجاحات؛ فإن كان “الإنسان يموت بطريقة الأجزاء”… فالنجاح قد يصنع بالأجزاء أيضاً.
مراكمة الإنجازات تقود للانجاز الأكبر. الإنجاز الأكبر هنا -حتى اللحظة- للأستاذة الجامعية والعالمة في الذكاء الاصطناعي، هو تربّع مؤلفها “الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي والبحث العلمي” على عرش قائمة أفضل كتاب في العالم في كل الأوقات على موقع BookAuthority الرائد عالمياً في تصنيف الكتب والمتخصص في تقديم توصيات وتقييمات حول أفضل الكتب المنشورة في المجالات البحثية كافة.
بداية القصة
ليس إنجاز د. فاطمة رومات الأول. سبق لها أن أشرفت على مشاريع بالتوجه ذاته. ميزة كتابها الجديد أنه يندرج ضمن الدراسات المستقبلية. الكتاب يُقرأ من عنوانه. مقاربة استشرافية ومقاربات أخرى حاولت عبرها د. فاطمة رومات تقديم وجهات نظر من مختلف البلدان والقارات.
بدأت الدكتورة فاطمة رومات الاشتغال على التكنولوجيا بشكل عام قبل التركيز في مرحلة لاحقة على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي منذ عام 1997. كان ذلك في إطار دبلوم الدراسات العليا المعمقة، حيث أنجزت بحث التخرج حول دور الاستثمار في التكنولوجيا في تحقيق التنمية بالمغرب. ثم أكملت البحث في الإطار نفسه، وأنجزت أطروحة للحصول على الدكتوراه حول موضوع “تحديات التنمية التكنولوجية: مساهمة في دراسة سياسة تكنولوجية مغربية”.
نضال ضد الثقافة الذكورية
أول تجربة لها كأستاذة زائرة بالكلية المتعددة التخصصات في مدينة اسفي كانت سنة 2008. عامذاك كُلفت بتدريس مادة قانون الإعلاميات. “مادة تطلبت مني مجهوداً كبيراً لكن كانت أيضاً فرصة لتعلم أشياء جديدة”، كما تقول، لتشتغل بعدها مع مراكز بحثية دولية حول التعاون الدولي في مجال التكنولوجيا، الأمن السيبيرياني والذكاء الاصطناعي، وتزامن ذلك مع بداية الاشتغال على مخطط المغرب الرقمي 2013.
“أربع سنوات على محاولة الحصول على منصب أستاذة مساعدة، ورغم تميز ملفي العلمي، إلا أن كوني امرأة متزوجة وأماً، كان كافياً لتُحسم لصالح من ينافسني على المنصب من الرجال، الذين ( بحسب اعتقاد أعضاء اللجان العلمية وأعضاؤها من الرجال) يمكنهم التنقل بسهولة بين المدن، عندما يكون العمل في مدينة أخرى أو ضرورة للتنقل للمشاركة في مناقشة أطروحة دكتوراه أو في ندوة ما أو غيرها من الانشطة العلمية. “أربع سنوات من الإصرار والنضال ضد الثقافة الذكورية -تقول- حولتها الى أربع سنوات من التجربة الغنية التي تعلمت فيها الكثير”. خلال هذه الفترة، ألقت الدكتورة رومات العديد من المداخلات في ندوات دولية بكل من البرتغال، فنلندا، إسبانيا، إيطاليا، فرنسا وغيرها من الدول الغربية والعربية، وأشرفت على العديد من المشاريع الهادفة الى تمكين النساء في المغرب. “المجهود هذا -تضيف- تكلّل بتأسيسي للمعهد الدولي للبحث العلمي بمراكش، بعدها ظفرت بمنصب في كلية الحقوق اكدال بجامعة محمد الخامس وهي الكلية المعروفة بعراقتها وتميزها (…) وأكرمني الله بولوج جامعة عريقة وعن جدارة واستحقاق، لأصطدم منذ اللحظة الأولى بالثقافة الذكورية من جديد، وهي ثقافة أدّيت ثمنها سنوات من عمري ومازلت أواجه التمييز والحيف على مستويات عدة حتى الآن”، تقول د. رومات.
بإمكان المغرب…
عام 2020، نقلت جائحة كورونا التكنولوجيا إلى مرحلة متطورة مهمة، وهي الانتقال إلى عصر الذكاء الاصطناعي لا التحول الرقمي. “الجائحة وضعت العالم كله أمام تحدي الانتقال إلى عصر الذكاء الاصطناعي، تقول- وقد بدأ السباق نحوه من طرف القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية، الصين، المملكة المتحدة، كندا، روسيا، الدول الأوروبية وغيرها من الدول المُستثمرة في هذا المجال”.
أما بالنسبة للمغرب، تتابع، فهو يحتل المرتبة 56، بحسب مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي الذي يشمل 62 دولة من القوى التي تسرع التطور في الذكاء الاصطناعي من خلال ثلاث ركائز أساسية: الاستثمار، الابتكار والتنفيذ. برأيها، “بإمكان المغرب إن يحقق نتائج أفضل لو اهتم بتأثيرات الذكاء الاصطناعي والتي تحظى باهتمام كبير من طرف المنظمات الدولية و الإقليمية (…)”.
قناعة وإصرار
كيف لمست اهتماماً في داخلك بمجال الذكاء الاصطناعي؟ سألنا الدكتورة فاطمة رومات، فأجابت: “يقال، كل الطرق تؤدي الى روما وأنا أقول كل مسارات التنمية تبدأ بالاستثمار في التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي في المجال. هذا ما توصلت إليه، واقتنعت به منذ السنوات الأولى من البحث الجامعي في موضوع الاستثمار في التكنولوجبا”.
ازدادت قناعة د. رومات بالتوجه هذا، بعدما كلفت يتدريس مادة العلاقات الدولية والقانون الدولي العام، حيث لا يمكن مثلاً شرح ارتقاء فاعلين جدد في المجتمع الدولي دون الاشارة إلى دور التكنولوجيا، وفيما بعد شبكات التواصل الاجتماعي (…) ولا يمكن شرح موازين القوى في العلاقات الدولية دون الحديث عن الأشكال الجديدة للقوة، التي لم تعد خشنة فقط بل أضحت ناعمة وذكية (…) فكيف نتناول مواضيع القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني ونشرحها لطلبتنا دون الحديث عن تهديد الأسلحة الذاتية القيادة للسلم والأمن الدوليين، وهي تطرح تهديداً للبشرية بأكملها؟”.
سؤال وجواب
ليس سهلاً تحقيق إنجاز عالمي بهذا الشكل، بخاصة في مجال البحوث العلمية. إن فكرت فاطمة رومات بمسيرة إنجاز الكتاب، ماذا يمكن أن تخبرنا عن أكثر لحظات التحدي الذاتي التي مرت بها؟
-“بالفعل ليس من السهل إنجاز مشروع من هذا النوع، وليس من السهل أن يحصل الأستاذ الباحث على موافقة دار نشر عالمية مثل سبرينجر المعروفة بتبنيها لمعايير أكاديمية صارمة ومراحل معقدة قبل وبعد توقيع العقد، لكن الأمر يتعلق بمشروع بحثي متكامل ومدروس بشكل جيد لكي نضمن له النجاح في كل المراحل التي مر منها إلى أن وصل إلى هذا المستوى”.
التحدي الاكبر، تقول لـ “النهار العربي”، كان احترام التواريخ المضمنة في برنامج العمل “التي ألتزم بها كمشرفة على العمل مع دار النشر بموجب العقد المبرم، وفي نفس الوقت ضغط العمل الدي كنا نشتغل فيه كلنا، أقصد أعضاء الفريق، فكلنا لدينا التزامات مهنية داخل الجامعات التي ننتمي إلبها، والتزامات علمية داخل أوطاننا وخارجها فكان يجب أن أبذل جهدً كبيراً في التنسيق بين الفريقين، إضافة الى أنه يتعين علي التدقيق في كل ما كتب بداية لتنسيق أجزاء الكتاب المكون من عشرة فصول، ومقدمة وخاتمة اضافة الى إنجاز كل التراخيص الضرورية والتي تفرضها دار النشر (…)”.
تحدبات كورونا حضرت بقوة، فأثرت على برنامج العمل الخاص بالمشروع، والتحدي الثاني “كان مرتبطاً بالحرب في أوكرانيا، علماً بأن أحد المشاركين هو أستاذ باحث بجامعة كييف ورغم دلك بذل مجهوداً كبيراً للتواصل معنا تحت القصف لوضع اللمسات الأخيرة على المشروع”.
ليس الأوّل
هذا المشروع ليس الأول للدكتورة فاطمة رومات، بل سبق وأشرفت على ثلاثة مشاريع من هذا النوع. المشروع الأول حول “المجتمع المدني والديمقراطية وشبكات التواصل الاجتماعي” نشرت الطبعة الأولى منه سنة 2017 والثانية سنة 2020. الكتاب الثاني يحمل عنوان “الذكاء الاصطناعي والدبلوماسية الرقمية: التحديات والفرص” نشر سنة 2021 مع دار النشر العالمية سبرينجر، ولقي اهتماماً كبيراً من طرف الدبلوماسيين، لاسيما السفراء الأجانب للدول المتقدمة في مجال الدبلوماسية الرقمية، و”حقق نسبة مبيعات مهمة، وتلقينا عروضاً لترجمته للغات أخرى ووجد مكاناً له في جامعة أوكسفورد وجامعات أخرى أوروبية”، تقول. الكتاب الثالث هو الذي حاز هذا الترتيب العالمي، محتلاً المرتبة الأولى في لائحة تشمل أفضل عشرين كتاب في العالم وفي التاريخ حول الذكاء الاصطناعي. وكتاب جماعي رابع حول القيادة النسائية نشر سنة 2020. هذا بالاضافة إلى كتابين فرديين، الأول نشر سنة 2011 حول “تحديات التنمية التكنولوجية و السياسة التكنولوجية بالمغرب” باللغة الفرنسية من طرف دار نشر ألمانية، والثاني نشر السنة الماضية باللغة العربية تحت عنوان “العلاقات الدولية وتحديات الذكاء الاصطناعي”، وأدرج “أياماً قليلة بعد عرضه، في رف الكتب الأكثر مبيعاً بمكتبة الألفية الثالثة بمدينة الرباط”.
فريق العمل
المشاركون في المشروع من مشارب مختلفة. أوروبا، روسيا، أميركا اللاتينية وغيرها. يتمون إلى حقول معرفية مختلفة. من الرياضيات إلى القانون الدولي، علوم الهندسة والبرمجيات، الإعلام والتواصل، إضافة إلى علوم الاجتماع، السياسة والاقتصاد. المشاركة النسوية في المشروع كانت متميزة، تقول د. رومات.
معايير
مراحل تقييمة عدّة مر بها المشروع. محطات عديدة دامت سنتين، فمعايير دار النشر صارمة.
أولى المراحل تمثلت بتقييم المشروع من طرف لجنة علمية دولية. جهات قامت بالمراجعة، “لا علم لي بمن تكون والمشروع أرسل لها دون أسماء” كما تقول رومات، ليتم بعد ذلك إبرام العقد مع دار النشر.
ثاني المراحل كانت في عرض الكتاب على السلسلة التي تبنت نشره، وأيضاً قامت بتقييمه، لتأتي بعد ذلك المرحلة الأخيرة لمراجعة المحتوى وتدقيقه، سواء من حيث المضمون أو الشكل، أي تدقيق الإحالات والمصادر والروابط، وكذا التدقيق اللغوي.
موضوعات
موضوعات في قلب الذكاء الاصطناعي يتناولها الكتاب:
الجامعات الإفتراضية وتحديات أخلاقيات البحث العلمي في عصر الذكاء الاصطناعي. تحولات الثورة العلمية والتكنولوجية. دور الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي والبحث العلمي في إطار نموذج التنمية المستدامة. التحديات القانونية والتشريعية المرتبطة بهذا الموضوع. القرصنة العصبية والذكاء الاصطناعي، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي والتعليم العالي والبحث العلمي.
الخطوة التالية
أقصى ما يمكن أن يطمح إليه الأستاذ أي أستاذ تقول د. فاطمة رومات لـ “النهار العربي”، هو “أولاً أن ينجح في صناعة النجاح لطلبته، وقد حققت هذا مع بعض الطلبة ممن يشتغلون تحت إشرافي، مجموعة من الباحثين الشباب والباحثاث الشابات المقبلين على البحث العلمي في الذكاء الاصطناعي بعزيمة وشجاعة وإصرار زادهم حب الوطن والتطلع لمستقبل أفضل، ويحق لنا أن نفتخر بهم وأن نطمئن لأن هناك من يتهيأ لحمل المشعل بأمانة وإخلاص”. وهنا، تتطلع د. رومات إلى تأهيل المزيد من الطلبة و الطالبات.
ثانياً، تتابع، أن يتم تبني أفكار الاستاذ من طرف صناع القرار الدولي وأن يشارك في بلورة السياسات والآليات الدولية و”إن تمكنت من تحقيق ذلك فإنني أطمح الى المزيد”، تؤكد، وفي بالها، أن تسترجع الجامعة في المغرب وفي العالم العربي ريادتها في توجيه المجتمع والمجتمع السياسي والاقتصادي لما يخدم التنمية المستدامة في ظل التحولات التي يعرفها العالم وخلق البنية التحتية التكنولوجية المعتمدة على خارطة طريق “واضحة” كفيلة بجعل قطاع التعليم قطاعا سيادياً”.
…وأما ما تعمل عليه الآن د. روما فهو “كتاب جديد في طور النشر، مع دار النشر العالمية نفسها، إضافة إلى مجموعة من الأنشطة المبرمجة في إطار الشبكة الدولية حول الذكاء الاصطناعي والمجتمع الدولي “التي قمنا بتأسيسها السنة الماضية والتي تضم خبراء دوليين من مختلف البلدان”.
نموذج الـ Chat gpt
سألنا د. فاطمة رومات رأيها في نموذج الـ Chat GPT. برأيها هذا “أكبر دليل على ضرورة خلق جسور بين الحقول المعرفية، لأن المبرمجين والمهندسين في علوم الحاسوب ومن يشتغلون بالخاورزميات، لا يأخذون بعين الاعتبار التأثيرات السلبية أو المخاطر التي تطرحها أختراعاتهم في مجال الذكاء الاصطناعي، وأنها قد تشكل أحيانا خرقاً للقانون الدولي لحقوق الانسان، و chat Gpt هو نظام يمكن استخدامه في بعض المجالات مثل خلق محتوى تجاري أو شيء من هذا القبيل، لكن يجب حظر استعماله في المجال الأكاديمي، لأن في استعماله خرقاً لحقوق المؤلف والناشر التي نصت عليها المواثيق الدولية والتشريعات الوطنية للدول”.
Chat gpt يضرب “في العمق كل أخلاقيات البحث العلمي التي يناضل الأساتذة الجامعيون للحفاظ عليها في كل الجامعات في العالم و مدى الالتزام بها شرط أساسي للحصول على الدبلومات الجامعية من البكالوريوس إلى الدكتوراه”، كما تقول، لهذا نصت التوصية حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي على ضرورة اشتغال المبرمجين والمتخصصين في علوم الحاسوب مع متخصصين في مجالات أخرى حتى يتم استحضار الأخلاقيات عند تصميم نظام ذكي معين، لأن أغلب المهندسين لا يظنون أن للتطبيقات التي يطورونها آثاراً سلبية أو مخاطر ولا يدرون بأن لديهم مسؤولية قانونية عن ما يتعلق الامر بأثر سلبي معين (…)”.
المصدر: النهار العربي
رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=16940