الأديبة  والشاعرة رامونا  يحيى

هذه آثارنا تدلّ علينا

فانظروا بعدنا إلى آثارنا

لعل السؤال المطروح اليوم ماذا تكون عليه الأخلاقية في يومنا هذا من دون التأثيرات الآتية من مسرحيين كأسيخولوس وسوفوكليس، من دون سقراط في محاوراته، ومن دون المؤرخيين أمثال هيرودوتس وثيوسيديدس ومرحهما الهادئ والشّكية اللّطيفة عندهما إلى التّسامح مع عادات وآراء الآخرين؟ هل تستخرج من الأعمال الأدبيّة العظيمة أزهى المفاهيم لطرق العيش المختلفة؟ وماذا عن الأزمنة والأماكن الّتي يذكرها النّاس أكثر؟ هل هي نزعاتهم السياسيّة؟ حروبهم؟ أم اضطراباتهم الإقتصاديّة؟ إنّ هذه الأحداث تعرف وتدرك من قبل الشخص العادي ويعرف تفاصيلها المؤرخون. ومع ذلك فإنّ الأحداث لا تحفر عميقًا في الحياة الشّخصيّة للنّاس كما يفعل الأدب فما هو حي اليوم لقدماء الأغريق هو نحتهم، وشعرهم، وملاحمهم، ومسرحياتهم. وما هو حي اليوم للعهد الاليزاباتي هو المسرحية الشعريّة بشخصياتها الحيّة وطاقاتها اللامتناهيّة. وقد تكون الحضارات والإرث الأدبيّ والثقافيّ الخاص بها ينابيعًا لنظريات وحقائق تنير أفهامنا العصرية. لكن الّذي يسمح للإنسان المعاصر بالمشاركة المباشرة في مشاعر ومواقف هذه الحضارات هو إرثها الأدبيّ وليس سياساتها أو دياناتها، فالأدب وحده لا يكون قديمًا أو عتيقًا على الإطلاق! ولا يسبقه الزمن. العلم مثلًا تراكمي فقد تكون الكتب العلميّة الصّادرة منذ عشر سنوات غير مقبولة اليوم أو مهملة. إنّ علوم الإغريق أو العرب تدرس اليوم لقيمتها التّاريخيّة فقط. أمّا الأدب فلا يكون مهملًا على الإطلاق. فهو يقدم للإنسان الحديث حتّى اليوم تأثيره الكامل الّذي توهنه الأزمنة. لن يصبح شكسبير عتيقًا طالما أنّ البشر سيستمرون في الإحساس بالحب، والغيرة، والتّنازع في عالم مضطرب. ولن يصبح المتنبي عتيقًا طالما أنّ العرب سيستمرون في إقامة الوزن للفخر والإعتزاز بالنفس ولن يصبح عمر الخيّام عتيقًا طالما أنّ النّاس سيستمرون في الشّعور بالوجود الطاحن للقدر. ولعل الجملة الشعريّة القائل :» هذه آثارنا تدلّ علينا فانظروا بعدنا إلى آثارنا» هي خير تعبير عن هذه الحقيقة. إنّ معظم الأدباء والشعراء الّذين ننظر إليهم بالتوقير والتّبجيل قد ماتوا دون أن يمجدهم أحد وحتّى الّذين اعتبروا في أيامهم كأشخاص جديرين بالتّقدير كان الإعتبار لهم أقل بكثير من رابحي الحروب ومتبوئي الرّئاسة السّياسيّة، لكن رابحي الحروب أصبحوا في ذمة التّاريخ ولم يبق سوى الأدب بألقه الّذي لايخبو. ولا زال أدب العهود السّابقة قادرًا على قولبة المواقف والاستجابات في حياة الإنسان الحديث بأكثر من طريقة.