يذهب  المثل الشعبي  القائل  “ اختلاف الرأي لا يفسد  للود قضية “  للإشارة  الى براءة التجربة   بوصفها نسقا شفاهيا  للتداول  ومحمولا  للحكاية بأصلها الفكري .

الرأي في دورة استحالته  يمر في مراحل مختلفة  فيها من المقبولية  والرفض  بناء على قدرة الفكرة على التلاقح ، التعايش ، الحوار مع راهنية الحاضنة الفكرية  رأيا  ومجتمعا،.

فما هو الرأي  الذي نختلف عليه ، وعن ايّة  حدود للإختلاف  يسمح بها الفرد والمجتمع ازاء دروع وقيود ومحددات  لا حصر لها وتابوهات قارة ؟؟

فهل كل اختلاف مباح ، وهل طبيعة العقلية العربية  بمركباتها الفكرية وعمق وتشابك مرجعياتها   تبيح لها تقبل  الفكرة،  الرأي،   بأريحية  ومقبولية دون فساد للود ؟؟

……………….

أسئلة  حرجة لا تصمد مع  براءة أمثال  السلف والخلف  في مواجهتها والخروج منها بأقل الخسائر  أو أضعف الأيمان .

الرأي – الفكر –  هو نتاج   للطبيعة  وتمظهر مهم  من وجودها الحقيقي  ، والأمثال تعيش في واقعها الافتراضي وحاضناتها الأساسية ، وهنا  يحصل نوعاً من الإغتراب  بمفهومه  “ البريشتي الماركسي” نسبة الى  المسرحي بريشت  واستخدامه لمفهوم  التغريب في المسرح ماركسيا.

……………….

هذه الغربة هي الفاصلة  الكبرى بين  الفكر ومراجعه  وثبوتيته  وقسوته و بين المثل وشعبيته وبراءته وتصالحه ، بين الرأي الذي يُنتج  في مطابخ  بالغة التعقيد تصل الى حد القداسة وتتجاوزها الى حد  التطرف وبين المثل  بشوق  معتنقيه على  ترجيح  الخبرة و الفطرة الأولى  .

……………….

من الرأي  تنتج قضية و القضية تلد جبالا من  العوائق في التواصل تغذيها  مخالب بالغة التأثير في الوعي الفردي أولا ومن ثم تصاغ  عقيدة جمعية يراكمها الزمن لتكون ُمسلّمة وبديهية وقاعدة  وحكم  ثابت لا يتماشى مع مزاج  التعايش المجتمعي  ، ويتدرج الى منزلة أعلى ليصل الى  قمة هرم  المعرفة والسداد والقطعية ، وسوف  تكون هذه القمة كفيلة برمي الآخر وفكره من شواهق الوهم المسمى  عقيدة مطلقة ، وسوف يتراجع المثل وتندحر الحكمة  .

……………….

في مجتمع متقطع الأوصال  ومنخور وعارٍ أمام  رياح الافكار الوافدة بحاضناتها المختلفة دينيا ، قوميا ، مذهبيا ، اجتماعيا ، سياسيا ، اقتصاديا ، مزاجيا  نفسيا .. الخ ، هذه العوامل تلعب دورا مهما في خلق بؤر للسيادة ومنخفضات للطاعة ، وهنا يشكل الشرخ – الغربة-  عصابا للفرد  وازدواجية للمجتمع ، فيجنح الفكر الى السلطة ويبسطها بأجنحة الخضوع   وليس من قوته في المحاججة العقلية وقوة الاختلاف على  تثبيت حق الآخر في الرأي مع عدم فساد الود  والقضية محور  الجدل والحوار

وحين يسود الرأي  ويتخفى  الود في قبول  الرأي الآخر  فتصبح القضية   طيفا  يكرس مفهوم العزلة بعد الغربة ، وهنا تنشأ  عقدة اجتماعية فردية لتصبح جمعية ، وبتراكم زمني ايضا يستعاد  انتاج مفهوم المظلومية من الآخر  والقضية ويفسد القياس وتضيع المقاييس  ، ويصبح الضحية جزارا والجزار مفسدا ..

وتبدأ  دورة جديدة من التعريف لمفهوم  الفكر والاختلاف والقضية ، وسيكون الاحمر  اسود  والأبيض سيرحل الى التمازج مع الوان الطيف الشمسي  ليخلق قوس قزح جديدا  ومصالحة أخرى  وتوبة وندم  جديدين ، قوامها  الود المحكوم  بالطروحات الفكرية  والقضية  المدونة في محرمات الآخر ، وان تجاوزها يمثل فساد العقد  وعقوق الطاعة ..

في مجتمعنا العربي – الإسلامي – الشرقي أوسطي ، لا تبيح  منظوماته  بكل  تمظهراتها الفكرية والاجتماعية في  نمو فكرة الاختلاف الخلاق  لوجود عائق بنيوي في أصل الفكرة  والرأي ، منطلقين من الفكرة الأحادية في حيازة الحقيقة  وصولا الى الفرقة الناجية بالمفهوم اللاهوتي لمصير الإنسان ما بعد الموت ، وسيكون  تقرير صلاحية الرأي البشري وفقا لهذه الوصايا ، وسيبدأ  واقع الفكرة بابتلاع  الآخر فكرا ووجودا واستلابه  ليكون أمام خيارين :  الاعتراف  الكامل والوقوف  على تل السلامة ، واما الرمي قذفا من شواهق  السيادة الفكرية ، فلا ود ولا قضية .

في الوقت الذي تهتم الشعوب بتاريخها الشفاهي وتعتبره مدونات وخلاصات مهمة  لتنبي عليها فكرة الاختلاف والتنوع كقاعدة لحياة التعدد الذهبية  ، نسعى نحن بشكل جاد ومبرمج لمحو وسحق كل ما يعيق سيادة الواحدية  الفكرية ، لذا تصبح البراءة الاجتماعية  وخبرة المجتمعات في  انتاج  قيم التعايش المجتمعي فكريا واجتماعيا  محض هرطقات لسلف قديم .

نحن نسعى بجدية عالية لبناء قبورنا  في  غربة وعزلة  وبحبور تام   . فلا رأي  ولا ود  ولا قضية ..

وديع شامخ