نهى الصراف

أكثر ما يحرّك سلوك الأفراد واتجاهاتهم عواقب هذا السلوك وردود أفعال الآخرين تجاهه، فإذا تبنى أحدنا سلوكاً معيناً في إحدى المواقف الاجتماعية أو تبنى رأياً مناهضاً أو مؤيداً لرأي المجموع، فإنه سيتلقى رد الفعل بصورة مباشرة أو غير مباشرة من قبل الآخرين على هيئة رأي مخالف وربما مؤيد.  هذه العملية الاجتماعية في إطارها الشكلي، تتبع نظرية الثواب والعقاب وهي من أكثر نظريات التربية تعقيداً في علم النفس التربوي.  وفي صورتها المبسطة، تعتمد هذه النظرية في تربية الطفل على مبدأ عقابه في حال أخطأ في سلوك ما، ثم إثابته في حال عدّل من سلوكه أو نفد تعليمات الأهل بحذافيرها، وهي عملية شائكة يتقمص فيها أحياناً الثواب والعقاب أدواراً متبادلة أو متشابكة على حسب طبيعة الموقف، من دون الانحياز إلى خيار واحد فالتربية الأساس يجب أن تقوم على أساس التوازن في هذين الجانبين.
لكن، يبدو بأن الأبحاث الحديثة قد حسمت الأمر لصالح العقاب تحديداً متخطية بذلك عقوداً من البحث العلمي في هذا المجال؛ حيث وجد باحثون بأن معظم الناس يميلون إلى تغيير سلوكهم إذا اعتقدوا بأن عدم التغيير سيجرهم إلى عقاب من نوع ما، في حين لا يؤثّر الترغيب في الثواب على تغيير السلوك بالقوة ذاتها، في إشارة إلى أن الاستجابة للعقاب يتبع أساس فسلجي يكمن في دماغ كل إنسان. وفي تجربة طبقت على تلاميذ في مدارس ابتدائية، تبين بأن التهديد بالعقاب (ليس العقاب الجسدي بالطبع) في حال أخطأ التلاميذ في إجاباتهم كان أكثر فاعلية مقارنة بتقديم إغراءات الثواب (النقدي أو العيني) للتلاميذ في حال أجابوا بصورة صحيحة وكان الاختلاف بمعدل ثلاثة أضعاف لصالح العقاب.  ويزعم الباحثون بأن النتائج التي خرجوا بها من شأنها أن تكون مفيدة مع المعلمين في المدارس، إضافة إلى الآباء الذين يعانون في تقويم سلوك أبنائهم الجامح وتعديل اتجاهاتهم.
وترى الدكتورة جين كوبانيك المشرفة على البحث؛ أستاذة علم الأعصاب في كلية الطب- جامعة واشنطن، بأن وجهة النظر هذه لا يمكن تفسيرها بأنها قاسية، طالما أن العقاب يأتي في صورة تقويمية أكثر منها ترهيبية بمعنى أنها رد فعل طبيعي للخطأ، وهذا أمر ضروري لتوصيل رسالة إلى الطرف الآخر (التلميذ هنا) بأنه ارتكب خطأ ما وعليه عدم تكراره لتجنب ردود الأفعال السلبية.  وعلى وفق نظرية التطور المعرفي، فإن الناس يميلون في الغالب إلى تجنب العقاب أو المثول إلى المواقف الخطيرة، في حين أن الثواب (المكافآت) ليس لها هذا التأثير أو التهديد المباشر .  وفي حالات مماثلة، وجد بأن المكافأة على الخيارات الصائبة كلما كانت أكبر كلما قد تعزز السلوك الجيد بصورة أكبر، في حين أن العقوبات الرادعة تؤثر في السلوك بصورة أوضح بصرف النظر عن مستوياتها؛ أي أن الإثابة على العمل الجيد تؤتي نتائج أفضل كلما ارتفعت قيمتها، بينما تتساوى مستويات العقاب في تأثيرها على الأفراد.  ويعكف باحثون حالياً إلى النظر في كيفية وآلية عمل دماغ الإنسان في استجاباته لإشارات الثواب والعقاب وكيفية التمييز بينهما فسلجياً.
ولأن مسألة حيوية مثل هذه قد استغرقت الأبحاث النفسية على مدة المائة عام المنصرمة، فإن الصعوبة كانت تظهر دائماً في مساحة محددة من البحث العلمي وتساؤل بقي معلقاً على الدوام في حواشي البحوث العلمية مفاده:  هل في استخدامنا منهج بحث بسيط في استشفاف ردود أفعال الناس على مسألة مهمة مثل الثواب والعقاب، هو من آثار كل هذه الخلافات المتناقضة في وجهات النظر، أم أن المناحي النفسية والسلوك الذي توجهه الانفعالات المختلفة لا دخل له بكل ذلك، وأن الأمر برمته مرهون باستجابات عصبية في جانب مظلم من جوانب الدماغ لم يكشف عنه النقاب بعد؟