دينا سليم

ويبدأ العشق من أعالي جبال فيزوف، ويدّون عبر التاريخ بعين الشاهد الوحيد بليني الصغير(*).
ليست أحجية ما بدأت به بل هي حكاية شعب اندثر عصورا تحت ركام البركان الذي انفجر فجأة بينما مارس العشاق عشقهم المقدس المسموح في تلك البلدة الرومانية، عشرون ألف نسمة بقيت تحت الركام الأسود بقلب ميت ونابض بالفرح حتى في مماتهم.
نلمس التناقض المثير في هذه الحادثة التي حدثت زمن الحاكم الروماني»نيرون» الذي حارب المسيحية وأمر بقتل بطرس سنة 67 مؤسس أول كنيسة في روما، مما أدى ببولس مغادرة روما سنة 59 م متوجها إلى اسبانيا. لنستمع إلى الحكاية، كانت ظهيرة يوم 24 أغسطس من عام 79 مليئة بحالات العشق حيث زار المدينتين بومبي وهركولانيوم، (سوف أخص بالذكر بومبي بما أنني زرتها شخصيا)، التجار الغرباء الذين توافدوا إلى المدينة من خلف البحار بقصد تبادل السلع التجارية والنيل من حالات العشق المسموح به مع نساء محليات انتظرن الوفود القادمة بفارغ الصبر، أسلوب حياة معاش ضمن الرفاهية والانتعاش الاقتصادي في حينه، وقد زينت جدران الثكنات الخاصة بالممارسة بنقوش وصور جريئة تستحي منها عيوننا نحن الآن وفي هذا القرن، الواحد والعشرين، لقد حفرت أشكال القضبان الذكرية على جدران مدينة بومبي معلنة عن الأماكن المسخرة للعشق والتي سميت بثكنات»الجنس المقدس»!
لكن حدث ما لم يكن في الحسبان والجميع منهمك في عمله كالعادة في مدينة متحضرة وغنية بكل مستلزمات الحياة المتقدمة، من طرق معبدة ومرافق صحية منظمة وحدائق غنّاء. والعشاق في حالة انتصاب كامل والعاشقات عاريات ومستعدات لمنح الحب لمن يختارهم القلب لأنهن يملكن حق الرفض حتى لو جاء العرض مباغتة.
انهمك عمال الخزف وصانعي الفخار بعملهم والمزارعين بجني الحصاد، والنساء بتحضير أشهى المأكولات وملء الأجران في الأسواق لبيع الطعام على المارين، وانشغل أعيان المدينة بإعداد موكب عيد إله النار، وعلى مرأى من عيني الصبي بليني، الشاهد الوحيد الذي استطاع الهرب ليخبر عمه فتوجها معا لرصد الحدث من البحر، لكن توفي العم أثر الغازات المتصاعدة التي انتشرت في الهواء وبقي الصبي وحيدا، ومنه استقيت المعلومات التي دونها التاريخ عن هذا الحادث المريع، واصفا بليني حالة الفوضى عندما حاول سكان المدينة الفرار إما عن طريق البحر أو برا إلى أماكن أكثر أمنا، واصفا كيف لجأ بعضهم إلى بيوتهم طلباً للحماية، وكيف سببت السحب المتصاعدة بغمر أجساد البشر من أهل المدينة والغرباء البالغ عددهم عشرون ألفا، حيث بدأ البركان بقذف نيران هائلة سقطت رمادا أدت إلى ارتفاع الأرض عن مستوى سطح البحر، حيث غطى الدخان المدينتين وحجب الشمس وتحول النهار إلى ظلام دامس. العجيب في الأمر كله أنه عندما تمّ اكتشاف آثار المدينتين وذلك في القرن الثامن عشر، أي بعد 1,600 سنة، حافظت أكوام الرماد المتجمدة على الشكل الطبيعي التي تمتعت بهما المدينتين من ترف وثراء وعمارة رومانية وحياة رخاء ومدنية، وبعد التنقيب المضني الذي استمر سنوات اكتشفت أجساد الضحايا والموتى وهم في ذات الأوضاع التي كانوا عليها قبل الحادث.
تجولت في المدينة وسرت في الطرق التي مسدت بأحجار ملساء، وإذ بي أدخل طريقا ضيقا محاط بجدران نقش عليها الصبية، صبية ذلك الزمان، نقوشا لأعضاء تناسلية، منها استقى المنقبون الخلفية الثقافية والفكرية لتلك الآونة بمساعدة المصادر التاريخية، وقد استرعى انتباهي ظاهرة احترام الجنس ومن يمارسه نساء ورجالا على حد سواء، فقد حمل صبية وفتيات تلك الآونة هموم تختلف عن هموم صبية هذا القرن، ألا وهو كيفية الوصول إلى جنتهم الموعودة ومتى وكيف ستكون أول مجامعة تأخذهم إلى السعادة المرتجاة، لم يبحثوا عن الجنة في العالم الآخر، بل عن كيفية تفريغ الكيان الإنساني المحقون دواخلهم، هذا الذي يفسر الآن وفي هذا العصر تابوها محرما يؤدي بالإنسان إلى الجحيم بمجرد التفكير به.
لقد اعترفت جميع الأمم قبل الديانات السماوية بمنظومة الجسد غير المؤجلة واحترمتها وأقامت لها الشعائر المقدسة اعترافا بالمرأة كمصدر سعادة وواهبة للحياة، مع العلم أن الدمار الشامل لهذه المنطقة المذكورة جاء مع نشوء حضارة الرومان أثناء غياب الدين المسيحي. يعد المكان مصدرا سياحيا رئيسيا ويبعد عن روما حوالي 300 كم يصله السياح من جميع أطراف العالم، وجدنا أنفسنا داخل آثار تتنفس حياة وتنبعث من المدرجات المرقمة بأرقام رومانية موسيقى القدماء على مسارح فخمة صممت دون مكبرات صوت، جميعها كانت مطمورة تحت التراب. لم أكتف بما شاهدته في المدينة فعرجت إلى متحف نابولي لأرى المزيد من الجثث المحنطة تعود إلى أهالي بومباي الإيطالية.
جبل فيزوف: الجبل الذي ثار على مدينة بومبي الإيطالية.
بليني الصغير: الشاهد الوحيد الذي نجي من البركان.