أمان السيد
تتمطى في الفراش، تغمر رأسها، ترفعه ثانية، تتمتم: يا الله، أنا وحدي، في الفراش، في الأرجاء، في كل ما حولي. كم أنت رائع يا الله. إنه ليس حلما.
إنه الحقيقة التي انتشلت مني، ها هي قد عادت!
ترى حاجبين ينبثقان في الظلمة وقد علاهما استغراب، وسخط. ما تزال الظلمة خفيفة بسبب الستائر الملقاة، لكنها تستطيع تماما أن ترى ذينك الحاجبين، وقد ارتفعا بعد أن سمعا ما تمتمت به.
إنه هو، يقف هناك كما وقف للمرة الأخيرة، ظهره للخزانة الخشبية!.
لكنه خارج الغرفة، والباب مغلق تماما كعادتك في كل ليلة رغم أن لا أحد يعيش في البيت غيرك، فكيف استطعت أن تريه وهو يعلن استغرابه، ودهشته، وشيئا كبيرا من السخط؟!
تنفض الأوهام عن جسدها مع الغطاء الذي تزيحه قليلا. تعرف أن السلحفاة قد سحرتها منذ رأتها في الطفولة لأول مرة وهي تحمل بيتها على ظهرها، وحين تحس بأي خطر تغرق رأسها فيه. كانت تتساءل، وحتى اليوم تتساءل ترى في أية حجرة من الحجرات التي يتزخرف بها سطح بيتها، في أية حجرة يسكن قلبها، وعقلها، ثم تستبعد أن يكون لها ذلك، وتكتفي بأن تعتبر أنهما مزيج جميل من تلك الزخرفات، ولعل أعضاءها الأخرى قد غابت في تضاعيف تلك النقوش الغريبة أيضا.
من وقتها تنبأت بأنها اختارت طريقها: ستكون سلحفاة، وكان لها ما أرادت!
مطر يخربش بلطف فوق السطح منذ ليلة أمس، يطرق أذنيها مثل موسيقى: مون آمور، مون آمور…. هيا إلى الرقص أيتها المرأة الخلية القلب. اتبعيني، امزجي ساقيك بين ساقيّ، وارمي وراءك ثرثرات العقل تلك.. هيا..
ليست هنا، إنها السلحفاة، تدخل رأسها في جوف ذاك القابع الأزلي، لعله عقلها، مثلها تماما، تتمرى في تغضنات جلدها. كم أنك جميلة أيتها الجدة، مذ رأيتك للوهلة الأولى، وأنا أرى فيك الجدة التي سأكونها يوما، حكيمة أنت أيتها الجدة لدرجة أنك انعزلت عن كل ما حولك، من أشباه بشر، لا يليق بهم إلا « ما»، إنك وحدك التي يصلح أن تخاطب ب» من»، فأنت العاقلة وهم الحمقى!
مطر يلح، ومع ذلك لا نفع فيها، فلا شفاه المطر، ولا عنفوان جموحه يستطيعان أن يخرجاها من تلك الحالة التي تتلبسها، بين الأريكة، والفراش يتقلب النهار، والمرآة… كيف بإمكانك أن تنسي المرآة، يا امرأة، تلك التي تجلسينها بقربك على الأريكة، وتسترقين منها النظرات في كل حين: إنها نفسك، لا يعنيك فيها أن تتابعي الزمن، وهو يشحط خطوطه الدقيقة فوق وجهك، فأنت قد وثقت أنه زادها اختمارا شهيا، ترين نظراتهم وهي تسيل دبقا، وأسراريرهم كلما اقتربت منهم، يودون لو يحتضنونك بابتساماتهم، وقلوبهم، أما شهواتهم تلك، فلنسأل المطر عنها!
إنها نفسك، تلك الآثمة بالحب، والعطاء، لقد غدوا إثمين رهيبين في هذا الزمان المرير، مرّ هو الزمان، لا، لن أستجلب الشافعي إلى ساحتك ليرد عليك بما اتهمته، الزمان، العصر، الأوان، وهل هناك زمان حقا، إنه اختراع، مطية يركبون فوقها، وبقدميهم يستحثونها على السير، يستعبدونها، كما تستعبد تلك المرأة المتسلطة رجلا لا تملكين حيال إيقاظه شيئا، راضخ تماما، وهو يجرجر مثل عبد مستلب الإرادة، صلة ما تربطك فيه، صلة ابتدعوا لها مسمى، الرحم، حجرة تماثل تلكم الحجرات التي تنغرز في سقف السلحفاة، وبها تطل على العالم الفوقي، وتتفل عليه أحيانا، ثم تبتسم لك، تخصك بالابتسام، ترى هل لأنك هي، أم هي أنت، أم أنتما النسختان منذ تلك النظرة التي مزجتكما في ذاك البستان، قرب ذاك الحائط الذي يسكن وراءه رجل سمعته، وهو يصيح محذرا من ثعبان أسود يسري. لم تكونا تنتظران تحذيرا، فقد كنت ترين وإياها الثعبان، كانت في تلك اللحظات قد سحبتك إليه، لقد اندلقت كما المطر في جوفها، واكتشفت لذة الخفاء، والانعزال بعيدا، هناك استغرقت طويلا وأنت تتنقلين في تلك المغارات، كنت تسمعين صوت المطر في الخارج كما الآن يقرع السقف، السقف نفسه، سقف البيت الذي تعيشين فيه اليوم في الطابق الرابع من مدينة تحتفي بالغابات، وسقف السلحفاة، وسقفا يستظلك وأنت تنهمرين في الكتابة، صار لك عنق طويل مثلها، عنق مطويّ بتحلّقات لا تلحظها عيون بشر، لكنك سعيدة بها، كلاكما تحملان العنق نفسه، وبه تطلان على العالم الخارجي، متى أحببتما، ثم به تغوصان داخلا.
آه أيها الداخل كم تكتم من الصراخ، وكم تسحق من ترّهات الآخرين كي تظل مستغرقا بالحب وبالعطاء!
كان الثعبان الأسود غير بعيد يتسلل، ومثل خيط من خيوط سترة قديمة يسقط. كان ذلك الخيط الذي سقط، وتحول إلى الثعبان. ترى لماذا تختار خيوط السترات القديمة أن تتحول إلى ثعابين بالذات، لم لا تختار السترات أن تجرب لذة أن تكون سلحفاوات؟!
مطر، مطر، يدعوها إلى الرقص، شهي هو الرقص، حين تقف على ساق واحدة، ساق وحيدة، وبذراعين تحتضنان ما غاب عن غيرك، وترقص. ما تلك الخفة التي ستتحولها، ريشة في فضاء رحب، راقصة فلامنكو، باليرينا بثوب أزرق، والمطر يهبط من سحاب رمادي لم يدع للسماء أن تتنفس إلاه.
منذ أيام وذاك اللحن الوحيد لا يفارق شفتيها: الدنيا ريشة في هوا… طايرة من غير جناحين.. إحنا النهارده سوا، وبكرا حنكون فين.. كلمات، هي ليست إلا كلمات، أهي دعوة لتذكر الموت، أم دعوة للاستمتاع باللحظة، أهي دعوة ممن وصل إلى قناعة أرضته، ثم أراد أن يعممها حتى يتوقف الناس عن الحب، أم ماذا؟!
يا لذاك الغبي، لقد توقفوا عن الحب منذ زمن، إنك أغبى من أن تدرك ذلك، يا عاقد الحاجبين وراء ذلك الجدار، إني أراك، أعرف أنك مت، وتريد أن تسحب تلك المرأة إليك، يغيظك أنها ما تزال تشرق عالما ترى أنك حرمت منه، كم كنت تتمسك بالحياة، حتى وهما!
أتذكر عمرا افترضته لنفسك، وسجلته في فضاء افتراضي، وقد ابتلعت منه عشر سنوات، كي تبدو أصغر سنا، تريد أن تتمسك بالحياة، تريد أن تراك العيون شابا وأنت قد انحدرت.. انحدرت؟!
أتخيل التفاحة، تفاحة حواء تلك التي يتشدّقون بها، ويتقاذفونها بينهم إعلان النبذ من النعيم، ثم من أجلها يفنون العالم، أتخيلها، وقد شطروها نصفين، أكانت تلك التفاحة هي الدنيا التي بخفة ريشة في هواء، والتي يدعونا ذاك المتذاكي إلى اقتناصها، وهل كانت بذاك الانشطار تحدد الصراط المستقيم، ذاك الخط الوهمي بين الحياة، والموت، خط، ظل، يقسمك إلى نصفين، وينسّبك إلى عالم الشباب، وعالم الشيخوخة، خط، ظل، يحولك من خالد إلى فانٍ، وإن لم تزل ترتجف بالنبض؟!
كنت تود لو تكسب عشر سنوات أخرى، أن تتفوق على الموت، ولم تكن تدري أن الموت حين يريدك لا شيء يمنعه عن التهامك وجبة شهية، ولو اكتنزت له كل شيء، وبخلت بكل ما تملك.
أتراك كنت تفعل ذلك من أجل حياة أبدية كتلك التي يؤمن بها الفراعنة في مناشدتهم الخلود بعد الأبدي؟!
ما يزال الغطاء على رأسها، وما يزال رأسها داخلا، طالبا الراحة من لظى أفكار لا تهدأ، تراه، وهو يمد نحوها راحة شابهت مظلة يريد أن يشفط المطر فوقها، ويحولها إلى سحابة، إلى نبتة جافة، سلحفاة مقذوفة بالحجارة، لكنه الأحمق حين لم يدرك حقيقة ذاك البيت الذي تتأبطه السلحفاة وتلتحف به في مساراتها الأبدية، وفي دبيبها البطيء. دبيب بطيء؟ أي ادعاء ذاك، لو أنه يدرك أي صلابة لذاك البطء الذي يتخيل، لو تراكمت عليه طوابير الحجارة، ستراه، وهو يشق برأسه، ويبتسم بذاك اللمعان الذي يحول المحيط إلى زبد.
هناك ابتسامات لا يراها أمثالك. ألم تشبع من زمّ حاجبيك، لقد انطفأت تلك النظرة تحتهما، ولكن من الصعب لأمثالك أن يميزوا أن لا شيء تبدل، وأن الثعبان قد تصادق والسلحفاة، وهما هناك في فيء ذلك الحائط يضحكان ممن يعقد حاجبيه، وينتظر في الظلام متكئا على خزانة خشبية، وقد خيل إليه أن الخيط الساقط من سترة قديمة ثعبانا أسود، وأن السلحفاة ليست إلا هيكلا سيتداعى.
مطر، مطر.. كسل، تكاسل، سمّ ما شئت، كان خيرا لو أدركت أن تلك الستارة قد سحبها المطر، ونضّها بعيدا، بعيدا.