لاشك أن مصطلح قصيدة النثر قد أثار لغطا نقديا ومفهوميا في حقل الدرس النقدي والشعري معا ، لذا سأبدأ بتحليل المصطلح بعجالة كي امر بعدها على السؤال الجوهري موضوع الملف .
اذا ما استعرضنا الطبيعة الفنية والتاريخية لتطور الشعر العربي ، سنجد انها خلاصات لجهود جمعية جماليا عبر كل اشكال التعبير الشعري ، فمن رحم العمود الشعري ولدت ارهاصات تجاوزه على يد شعراء شكلوا منعطفا مهما لنمو بذرة التجديد ، مثل بيت الشاعر ابي نواس
«قل لمن يبكي على رسم درس واقفا ما ضر لو كان جلس»
كما اعمل الشعر الاندلسي في عمود الشعر فابتكر اشكالا جديدة كالموشحات والدوبيت والزجل وكذلك المقامات، إذ كانت كلها معاول في جدار الشعر العمودي، ومثلت خلاصة الارهاصات وبسخرية عالية تخطت صرامة وهيبة العمود الشعري ،و منذ ودلادة نسق شعري مغاير للطلليات العربية ، وهكذا توالت محاولات الخرق من داخل الشكل العمودي منذ العصر العباسي حتى العصور اللاحقة بجهود المهجريين وجماعة ابولو والمدارس المتنوعة وجهود علي أحمد باكثير وجميل صدقي الزهاوي ، الذي انتصر للشعر محررا إياه من سطوة القافية . حتى تحقق الخرق النوعي الأكبر بولادة بشائر شكل جديد أطلق عليه الشعر الحر ، من هنا ا بدأ الالتباس المفهومي ، لأن الشكل الذي اقترحه الرواد بدر شاكر الساب ، نازل الملائكة والبياتي هو بالحقيقة شعر لم يكن حرا تماما وان افضل واصح تسمية لهذا الشكل الجديد « شعر التفعيلة» ، ومع التطور الكبير في الاشكال والتقنيات الاسلوبية في الشعر العالمي والفرنسي خصوصاً، ،جاءت الإقتراحات الشعرية عاصفة مدوية ، ذاب فيها الشكل وانحنى لثورة الشعر الحديث في التراث الشعري العالمي ، وكان الشعر العراقي ليس بغائب عن هذا التطور، فكانت «قصيدة النثر» تطوراً نوعياً في مسار الشعر ، ولعل الاشكال النقدي هو الذي أوقع هذا الالتباس لوجود عقليات لا تريد للشعر ان يتحرر تماما من قوانينة الشكلية العروضية الفراهيدية ، لذا فأن الشكل الشعري الجديد هو شعر حر لا علاقة له بمزايا وقوانين الشعر العمودي ولا بشعر التفعلية ، وهذا هو المصطلح الدقيق لقصيدة النثر والمشاع خطأ .
اذن سأبدأ في الاجابة عن سؤال الاستفتاء من تقاطعي الشخصي من مفهوم قصيدة النثر .
هل استوفى المشهد الشعري العراقي حق مصطلح الشعر الحر في اقتراحه الشعري والنقدي ، وهل تخلّص شعراء النثر فعلا من لعنة التجنيس ؟
اذا ما نظرنا الى المشهد الشعري العراقي في وجوده في موجات الاشكال التعبيرية الشعرية ، سنجده حاضرا وبقوة وبجرأة أيضا .
النص العراقي الحر توافر على طاقة تعبيرية وجمالية من خلال اشكالية وجوده في حياة لا انتصاب لها، لقد كسر الشعراء ظهر العمود الشعري ، تزامنا مع أحياء العمود الشعري في حقبة الثمانينيات ، حقبة الحروب وما بعدها من الحصارات والجوع والوأد الجمعي للحلم العراقي بحياة آمنة ، فكان الشعر الحر ولادة قيصرية غاب عنها التأثر المباشر في وصايا سوزان برنار في كتابها « قصيدة النثر من بودلير الى أيامنا « والذي ترجمه الدكتورزهير مغماس اذ حددت شروط قصيدة النثر بالايجاز والتوهج والمجانية ، إذ ارى ان التوهج والمجانية توافرا على نص الشعر العراقي الحر اكثر من الايجاز ، كما كان للشاعر توفيق صايغ
و أدونيس ومجلة شعر تحديدا دور واضح على النص الشعري الحر العراقي ولكن لم يكن تأثيراً شاملاً ، حيث تجاوز الشعر العراقي الحر كل تراث الفترة الأدونيسية ومجلة شعر أيضا واختط لنفسه طريقا شعريا عراقيا جماليا مغايرا ، حمل روح الأمة العراقية وإرهاصاتها إذ تجاوز النص العراق الجديد ملامح الرومانسية الأنوية ، وصار يغور عميقا في إرثه الانساني والوجودي ، مخلصا لجوهر الشعر وحده ، متخذا من طاقة الشعر وحدها ظهيرا نظيرا وعمليا ، إذ لا وجود لإيّة قوانين خارجية يتكىء عليها غير روح الشعرية وجوهر الشعر وسؤاله الأزلي .
أستطيع القول وبثقة كاملة ان التجربة الشعرية العراقية في كتابة الشعر « الشعر الحر – قصيدة النثر-» حلقت بإمتياز في فضاء الشعر العربي واستطاعت أن تحصل وبجدارة على إقرار واجماع على شرعية مشروعها كإقتراح شعري وجمالي جديد وعلى يد مجموعة من شعراء أخلصوا للشعر كخلاص فردي جماليا وإنسانيا، ولعل من العوامل التي رسخت هذا الشكل الشعري هو بلوغ الشعراء لمستوى عالٍ من الوعي التجديدي وروح المغامرة والخلاص من التدجين الايديولوجي والنأي عن أغراض الشعر التقليدية وارتباطها بشروط خارج نصية وابداعية .
ومع أني لا أميل الى الهوية المحلية الشعرية في تحديد الشكل الشعري لأن التطورات الحديثة في الفن والشعر بدأت بتجاوز المحلية، وإن الإضافة النوعية للأشكال الشعرية لم تأت بجهود موهبة شعرية واحدة أو جماعة، بقدر ما هي حصيلة نتاج تطورات تاريخية وسياسية واقتصادية وفكرية متداخلة ، وتهيء حاضنات إبداعية لولادة الشكل الجديد ، كما أن صيرورة الإبداع الانساني سوف لن تتوقف على إقتراح أخير ، اذ لا نهاية للحفر لابداعي في جسد النص لغة وفكرا ، ولا شكل يمثل المبدع والإبداع.
*- مساهمتي في الملف النقدي الذي نشر في العدد الأخير من مجلة الأديب العراقي 13 في بغداد بعنوان
« نحو قصيدة نثرية عراقية» .