مجلة النجوم – سيدني.
على مسافة أمتار من بلدة كسارا اللبنانية في قضاء زحلة، يقع اليوم أكبر متحف خاص بالفن التشكيلي السوري، وقد أسسه عام 2017 الفنان ومصمم الديكور غالب صوان. بدأ ابن بلدة سعد نايل اللبنانية في اقتناء الأعمال الفنية السورية منذ عام 1995، مفتتحاً رحلة بحثه الطويلة عن أعمال الفن التشكيلي السوري من مدينة حلب، فقد عثر هناك في محل لبيع الأنتيكا على عمل تصويري نادر لطبيعة صامتة بريشة الفنان الرائد نديم بخاش، ويعود تاريخ رسم هذه اللوحة إلى عام 1870. منذ ذاك الوقت تابع صوان اقتناء لوحات ومنحوتات نادرة لكبار الفنانين السوريين، وقد وصل تعدادها اليوم إلى أكثر من أربعة آلاف عمل بين نحت وتصوير وحفر.
يتألف متحف “سمبوزيوم” من 20 غرفة تمتد على مساحة طابقية بنحو 1200 متر مربع، وتم تصميم هذا البناء على هيئة فضاء مفتوح أتى نسخة من قصر العظم في دمشق. وعن هذا البناء يقول صوان في حديث لـ”اندبندنت عربية”: “بدأت تأسيس متحف ’سمبوزيوم’ عام 2003. أولاً قمت بشراء الأرض المخصصة لهذا المشروع، وشرعت بعدها باستجرار مواد البناء من حلب ودمشق، وحاولت نسخ الشخصية المعمارية لقصر العظم الدمشقي من خلال تصميم الأعمدة البازلتية، وعبر توظيف الحجر الأبلق الدمشقي في تشييد جدران المتحف، مستفيداً من تكويناته الساحرة، في حين تم تصميم النوافذ والأبواب والستائر على الطريقة الدمشقية. صممت ذلك بنفسي ليكون فضاء مفتوحاً لعرض الأعمال، بعد دراسة علمية لنسب الضوء والحرارة والرطوبة، وكل ما يتعلق بالحفاظ على الأعمال وحمايتها من التلف والتخريب”.
كان المتحف بالنسبة إلى غالب صوان هو “المكان الحلم” كما يطلق عليه، ولذلك اعتنى بأدق تفاصيله في أثناء إنشائه. ويضيف صوان قائلاً، “تعاونت في تصميم المكان مع حرفيين دمشقيين لتنفيذ كل ما يتعلق بمعالم العمارة الدمشقية العريقة، فحتى ما يتصل بالزجاج المعشق للنوافذ والفسحة السماوية والمشربيات الشامية وزخارفها الإسلامية وأسقف العجمي والنحاسيات والخشب المصدف، نفذها حرفيون كانت مشاغلهم تقع في غوطة دمشق. كان ذلك قبل أن تدمر الحرب هذه المحترفات الرائعة، ويهرب أصحابها إلى خارج البلاد”.
ويضيف صوان: “اليوم الحلم صار حقيقة، وتحول متحف ’سمبوزيوم’ فعلاً إلى مزار لفنانين ومهتمين بالفن التشكيلي السوري. وأعمل حالياً على متابعة مشروعي بتحويل الأرض التي تحيط بالمتحف إلى أماكن لإقامات إبداعية لفنانين من سوريا ومصر والعراق ولبنان وإيطاليا وفرنسا، وقد استضفت عديداً منهم في العام الماضي”.
يزخر المتحف الزحلاوي بعديد من أعمال تغطي مراحل التشكيل السوري منذ مرحلة الرواد، من مثل ميشيل كرشة ومحمود حماد ونصير شورى وناظم الجعفري. يروي لنا صوان قصة لقائه مع الجعفري في مرسمه بعد 50 عاماً من العزلة قضاها الرسام الراحل في مرسمه الواقع في ساحة الشهبندر، احتجاجاً على تهميش وزارة الثقافة له ولأعماله، وكانت وعدته الوزارة أكثر من مرة بأن تقيم متحفاً لأعماله التي تناهز السبعة آلاف لوحة، رسم الجعفري فيها كل معالم مدينة دمشق القديمة وحاراتها وأسواقها التراثية، هذا الرسام النابغة الذي جمعته قصة حب محرمة مع امرأة اتخذها موديلاً للوحاته دفع ضريبة ذلك غالياً، وعن هذا يخبرنا صوان: “اقتنيت للجعفري أكثر من 143 لوحة، وكان قد أقام معرضاً وقتذاك في صالة “ثقافي أبي رمانة” في دمشق بعد غياب طويل، فاقتنيته كاملاً، وحزنت لمصير هذا الفنان الذي وثق مدينة دمشق عبر أعمال أحتفظ بها في متحفي، ولعل أبرزها لوحة ’ملك في اللباس العباسي’ ولوحة ’ساحة شمدين’ ولوحة ’سوق ساروجة’ وسواها كثير من الأعمال الجدارية الضخمة”.
ويحفل متحف “سمبوزيوم” بعديد من الأعمال النادرة لفناني الرعيل الأول من حزقيال طوروس وعبدالوهاب أبو السعود وشريف أورفلي وفاتح المدرس وميلاد الشايب ووحيد مغاربة، إضافة إلى أعمال عبدالقادر النائب وفائق دحدوح وإلياس الزيات. وتحتل جدران المتحف عديد من الأعمال التي توثق مراحل من النضال السياسي والمعالم الأثرية ومظاهر الحياة اليومية في سوريا، ومنها لوحة “الثورة” لغازي الخالدي، ولوحة “شروق الشمس في الغوطة” لسعيد تحسين، ومجموعة “الدون كيشوت” لسعد يكن ولوحة “قطاف القطن” لممدوح قشلان ولوحة “الشقيقتان” للؤي كيالي ولوحة “سوق الغرب” لميشيل كرشة ولوحة “سيدة صيدنايا” لنصير شورى، إضافة إلى أعمال لنحاتين سوريين من أمثال مصطفى علي ولطفي الرمحين وفؤاد أبو عساف وعدنان إنجيله.
ويضم المتحف أعمالاً لفنانين من الرعيل الثاني من نجوم الحركة التشكيلية السورية من مثل أحمد معلا وطلال معلا وفؤاد دحدوح وغسان نعنع وإدوار شهدا ونبيل سمان وأنور الرحبي وأيمن الدقر ونزار صابور، إضافة إلى حسام بلان ونعيم شلش وعلي مراد وإلياس أيوب… وتتعدد المدارس والحقب التي يوثقها متحف “سمبوزيوم”، إلى جانب أرشيف ضخم يعمل صوان حالياً على إعداده مع فريق متخصص تديره ابنته الفنانة ديانا صوان، لتصوير جميع الأعمال، ووضعها ضمن متحف افتراضي سيكون متاحاً على منصة خاصة بـ”السمبوزيوم” اللبناني على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك لتوفير فرصة للتعريف بالأعمال الفنية التي يضمها المتحف بين جدرانه.
وإلى جانب الأعمال السورية التي تغطي أكثر من 90 في المئة من مساحة المتحف، هناك أعمال لفنانين لبنانين من مثل حسن الجوني وأسامة بعلبكي وعمر فاخوري ونجلا حبيش وعارف الريس وحسين ماضي وعراقيين من مثل جبر علوان وسيروان باران ورياض نعمة وسلام عمر وحافظ الدروبي، ومصريين من مثل آدم حنين وشلبية إبراهيم. يهتم المتحف بأعمال الفنانين العرب، وفي هذا الصدد نسأل مؤسسه عن أسباب هذا الاهتمام والشغف بمشارب متعددة من الفن التشكيلي في بلاده والبلاد العربية، فيجيب: “منذ صغري وأنا أطارد الجمال أينما وجد، لكنني أميل إلى أعمال في ذاتها، وأعول على ذائقتي في انتقاء لوحات ومنحوتات، تعبر عن حقب سياسية واجتماعية وثقافية للبلدان التي أحرص على زيارتها والاطلاع على أعمال فنانيها واقتنائها”.
وثيقة تاريخية
أخيراً كان متحف “سمبوزيوم” شاهداً على توقيع اتفاقية فنية بين النحات العراقي أحمد البحراني والرسام الفلسطيني سليمان منصور الذي رسم لوحة “جمل المحامل” التي تمثل الفلاح الفلسطيني والإنسان المجاهد الذي حمل قضيته، وجال بها ككرة أرضية على ظهره، فيكون رسم “جمل المحامل” لسليمان وتقديمه نحتاً للبحراني. أتى هذا التعاون في إطار معرض فني كبير سيكون افتتاحه قريباً في مدينة القاهرة. وعن هذه الشراكة يخبرنا صوان فيقول، “هذا كله من أجل إيجاد علاقة أو صلة ما بين التصوير والنحت أو بالأحرى التشبيك بين الرسامين والنحاتين في أعمال مشتركة، فلا حدود تفصل بين الكتلة والرسم الذي يحاول ’السمبوزيوم’ عبره تفعيل إشكاليات جديدة في عالم الفن، لا سيما عند جيل الشباب، لهذا اقتنى المتحف أعمالاً لفنانين جدد، وجميعهم لديهم مواهب ساطعة ومبشرة”.
تشكل عشرات الأعمال لرواد ومؤسسين ومحدثين في الفن التشكيلي السوري وثيقة بصرية وتاريخية وفنية عن تطور الفن في البلاد، ولكن من دون أن تتم أي مبادرة من وزارة الثقافة بإعادة هذه الأعمال، إذ إن آخر محاولة لتأسيس متحف للفن الحديث انتهت بتسليم وزارة الثقافة السورية الأرض التي كانت مخصصة لهذا المشروع لتقام عليها حديقة للحيوانات في حي العدوي في دمشق.
عن إمكانية إعادة الأعمال السورية إلى بلدها الأم يقول غالب صوان، “أنا مستعد لتقديم الأربعة آلاف عمل التي أملكها كهدية لوزارة الثقافة السورية في حال تم السماح لي بأن أبني متحفاً خاصاً باسمي في سوريا، لكن هذا لم يتحقق حتى الآن، مع أنني حاولت التواصل مع وزارة الثقافة السورية غير مرة، وكانت هناك وعود لكن بلا أي خطوة فعلية على الأرض، فلماذا لا يسمحون بإقامة متحف خاص في سوريا أسوة بكل بلدان العالم؟”.
سؤال يبقى في ذمة وزارة الثقافة السورية ومديرية فنونها الجميلة التي تعاني هي الأخرى من سوء أرشفة وتنظيم لمقتنياتها من أعمال الفن التشكيلي السوري، إذ يخضع أكثر من 45 ألف لوحة لشروط غير ملائمة في مستودعات المديرية، وذلك لكونها غير مهيأة لتخزين هذا العدد الهائل من الأعمال، ثم إن المديرية لم تنه حتى الآن خطة أرشفة هذه الأعمال، ولم تضعها على موقعها في الإنترنت، مما يجعل تاريخ الفن التشكيل السوري في خطر حقيقي جراء الإهمال، ونتيجة التعامل بشكل غير جدي مع هذا الإرث البصري الفني الخاص، لبلاد هجرها معظم رساميها ونحاتيها، تاركين أجمل أعمالهم في مستودعات معتمة ورطبة، تتفسخ فيها اللوحة كجثة لونية تسيل على تواقيع أصحابها.
رابط مختصر:https://anoujoum.com.au/?p=20118