دينا سليم

إن كان بيتنا قرب البحر، وإن لم يكن، إن كان بيتنا على الهضبة أو لم يكن، إن كان بيتنا في أي مكان في العالم، معناه أننا بشر وملح للعالم، ولولا وجودنا لما كان للعالم وجود.

ولدنا من صلوات الحياة، وسنموت مع صلوات المناجاة.

أغلقت جميع البيوت على ساكنيها بسبب انتشار وباء كورونا في العالم، تم الحجر على البشر وعزلهم عن أماكن الخطر، خطوة جيدة من أجل الحفاظ على الحياة من وباء يؤدي إلى الموت.

قالوا: « للموت أسباب»، لا أحد يموت هكذا دون سبب.

خاف الانسان على مر العصور من الموت، تدرّب على قصة الولادة لكنه لم يستطع التأقلم على معايشة الموت، رفض التسليم لأن الحياة ثمينة جدا.

من عاصر ظاهرة كورونا في هذا القرن، سيحفظها في تاريخ بقائه، ظاهرة مثيرة جدا لم يسجل التاريخ مثلها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أما الذين ولدوا في القرن الماضي وما يزالون أحياء، مخضرمون، مرت على سنواتهم أحداث وظواهر كثيرة، صعب حصرها.

منحتنا العزلة، ذاكرة في رحلة الحياة الطويلة، نسترجع فيها الأماكن التي قمنا في زيارتها سابقا، نسترجع الذكريات الجميلة والقبيحة، ونحكي لأبنائنا وأحفادنا عن الظواهر والعلامات التاريخية الراسخة التي مررنا بها.

إن فتحنا ألبوم الصور، لن يقتصر الأمر على التصفح العابر بل سنقرر حالا ترتيبها حسب الأزمنة المعاشة، نقف هنيهة ونفكر قليلا ونسأل أنفسنا: (بماذا نبدأ، هل نبدأ من السنوات الأولى لحياتنا، أم نبدأ من تاريخ اليوم ونعود بالزمان إلى الخلف؟).

موجع اتخاذ القرار، نعبس ثم نحزن فنغلق الألبوم ونعيده إلى مكانه، نفتح التلفاز ونتابع نشرة الأخبار، ننتظر خطاب الرئيس موريسون، تماما كما انتظرنا سابقا خطاب جمال عبد الناصر في حرب حزيران، والسادات في حرب 1973، والملك حسين في خطابه في معركة الكرامة، الخ من الأصوات التي هدّأت من روعنا، لكن يوجد منها أصوات أبعدتنا عن حقيقة المشهد ودعتنا نؤمن بالنصر كذبا، لا بأس، يحيا الانسان ليكذب.

يأتي أحد الأبناء، مهتم بتاريخنا، يخرج الألبوم ويضعه أمامك، ويطلب منك أن تبدأ رحلة التذكر، يدعمك قائلا: (أنا حابب أعرف المزيد عنك).

لا يوجد أصدق من الصور، تجول المشاهد بقسوتها وتدلنا على محطات نسيناها، أو تناسيناها، تجبرنا على استذكار اللحظات التي وضعت في مخزن النسيان، الصور رحلة هامة في حياة الانسان، فلماذا يتلهف الجميع على التقاطها إذا؟

من شيم الانسان، التشبث في الحياة، وهذا من حقه، هو ولد حتى يعيش.

أعلن الرئيس موريسون أنه من الضروري الحفاظ على أنفسنا من وباء كورونا بالعزل، لكنه من الضروري أيضا، الحفاظ على لياقتنا الجسدية، وسمح لنا بالخروج ساعة من الزمان يوميا لممارسة الرياضة.

فايروس جديد وصلنا من الحيوانات جاء حتى يهدد حياتنا، لم تعرف كورونا أنسجة أجسادنا سابقا لذلك شكلت خطرا كبيرا علينا، بمقدورها محاربة الجسم لأنه غير محصن، نوع وباء جديد، المسمى كوبيد 19 ينتهزها فرصة.

الهام في الموضوع، عندما قررت الخروج من صومعتي بعد شهر من العزلة، كانت معي ابنتي، قادت السيارة وقالت لي: (سوف ننتهز الفرصة ونقوم بتجديد الحياة معا خلال ساعة)، استمعنا إلى أغنية حماسية، فجأة سيطرت علينا نوبة من الضحك الهستيري، ضحك جارف في موقف لا يدعو إلى الضحك نهائيا، لم يعد بمقدور العقل السيطرة على السلوك، وأجبر العقل في التفاعل مع القوانين، قانون العزلة التام، وحصلنا على نتائح عكسية تماما.

سرنا على شاطيء ساند جيت، جزء من الأراضي الرطبة التي يتمتع بها الساحل في كوينزلاند ويتميز بظاهرتي المد والجز، يبعد عن بيتي 5 كم، في الماضي عاشت في المنطقة، قبيلة من السكان الأصليين، استخدمت الرماح والبوميرانج في الصيد، وتحدثت اللغة الأصلية،  Yugarabul.

عندما وصلها الرجل الأبيض سنة 1853 أطلق عليها Cabbage Tree Creek

عومل السكان الأصليين معاملة قاسية من قبل قائد الشرطة ويدعى فريدريك ويلر، أطلق عليها فيما بعد ساند جيت.

ساحل أية في الجمال، خُلي من كل قدم آدمية، يا لهذا الخشوع، هبط الليل على منطقة خضعت هي أيضا إلى العزلة، أجزم إننا بقينا وحدنا، تذلل الشاطيء وانطوى على نفسه حاملا الكثير من الأسرار، أهمها وباء لم يعرف له اسما سقط على العباد الذين عاشوا بدائية الحياة قبل مئتي عام.