بقلم: دينا سليم حنحن

انزلقت أطرافي في كوّة بعيدة لا تشبه أي قعر، عزمت الذهاب إلى أحد المدن الإيطالية الجميلة والعريقة، تدعى تيفولي، تقع على نهر أنييني، على بعد 30 كم شرق العاصمة الإيطالية.

استخدمتُ جميع حواسي لأحظى بالمزيد من الرؤية، فمهمة السفر، أن تستيقظ على عزيمة التجوال والاكتشاف، وجمع ما تستطيع جمعه من مشاهدات ومعاينات نادرة.

بدأت مهمة اكتشاف المدينة من محطة قطار روما المتجه نحو الهدف، لم يكن القطار حديثا ولا مريحا، مقاعد خشبية يابسة وضيقة، تدلت درفات النوافذ التي بقيت مفتوحة مما دعا الريح إلى التفرعن والتجبر داخل المقطورتين، كلما اخترق القطار وتوغّل في إقليم لاتسيو تكشفت إلى العين المزيد من الضواحي الفقيرة، لكن قبل وصول المحطة الأخيرة ظهرت من بعيد قلعة تاريخية ضخمة، استخدمت سجنا وتحوّلت فيما بعد إلى متحف، قامت على تلة ارتفعت 250 مترا عن سطح البحر، وشهدت على تاريخ عريق من التمرد والعصيان زمن الخصوم في الدولة اللاتينية، اخضعت المدينة في النهاية واعتبرت حليفا لروما، مدينة تيفولي أبعد بعدة قرون من روما.

نشأ بيني وبين محطة القطار إحساس غير مريح، بداية أردتُ العودة من حيث وصلت، لكن وقف أحدهم أمامي وحثني على الاستمرار في رحلتي قائلا: اخرجي من المحطة المهملة، واسلكي طريق النهر، وعند عودتك مساء أخبريني عن انطباعاتك، مع العلم آخر قطار يعود إلى روما الثامنة مساء.

عبرتُ جسرا معلقا، تسرب إلى مسامعي صوت كمان، بحثت عن العازف ولم أجده، وإذ بصبي يلوّح لي من بعيد يدعوني إلى الاقتراب، اعتمر قبعة مصنوعة من القش، وحمل بعض المظلات، أخبرني إنني أصبحت داخل منطقة ( سوق البرغوث )، سوق شعبي أسبوعي عرضت فيه جميع ما تشتهيه العين، وقال لي: لقد حجزتُ لك مكانا، وها هي الشمسية، وثمن المقعد صورتين لأوريليوس، (قصد فئة 50 سنتا، مرسوم عليها تمثال الإمبراطور ماركوس أوريليوس وهو على ظهر الخيل)، حسابك الكلي كما تريدين من دافنشي، قصد يورو، (اعتمد عمل من دافنشي على اليورو).

نقدتُ الصبي بيده ما أراد واستمررتُ في رحلة الاكتشاف، سلكت طريقا مكتظا بالفيلات رائعة الجمال والمزودة بالحدائق المورقة، أخذتني مشاهد الشلالات، والجداول، والبرك، والقصور، مليئة بالتحف والنوافير القيمة، أقام سابقا في أحد القصور الامبراطور الحاكم.

شيدتعدةكنائستاريخيةمحاذاةبيوتالأثرياء،وتحولتبعضالقصورإلىقاعاتأفراحتطلشرفاتهاالمفتوحةعلىحقولالزيتون،أحاطتالأماكنالأثريةالرومانية.

عندما وصلتُ فيلا المحارب أدريانو، بدا لي وكأنني دخلت الجنة الموعودة التي يتحدثون عنها، في كل جدار ارتسمت حقبة من التاريخ، وفي كل سقف نقشت الصور العريقة تحدث عن أحداث كثيرة حصلت.

في نهاية النهار عزمت على تناول طعام العشاء، فاحترت باختيار المطعم من سلسلة مطاعم أقيمت في المنطقة الأثرية للمدينة، ببنائها القديم الذي يعود إلى أكثر من 300 سنة قبل الميلاد، جلست في مكان أثري شارف على قمة الوادي العميق، ضجّ المكان بالسياح وبخرير الشلالات والينابيع المتدفقة الرائعة.

من يزور إيطاليا وفاته ولم يزر تيفولي، يكون قد خسر الكثير من المشاهد الحضارية والتاريخية في أوروبا.