نصير الشيخ
تصوير الفنان مهند السوداني
.. هي انثى سومرية تمشط شعرها قرب الأنهار،وتداف احلامها مع وهج الشمس الذي يغمراريافها،وتدلل حسنها مع تمايل سنابل الحنطة بانتظار الحصاد.. “ميسان “المدينة الجنوبية الموغلة في القدم،أذ تشير المدونات التاريخية الى انها كانت دولة مستقلة في القرن الثاني قبل الميلاد 125))ق.م)) ،تحدها من الشرق عيلام،ومن الغرب بابل،حكمها ملوك البحر.
العمارة ..هي مركز المحافظة ، تقع بين تفرعات دجلة الى المشرح والكحلاء،والتي انشأها (محمد باشا الديار بكري عام 1861م)،عندما اراد ان يختار لحملته العسكرية قصراً،فلم تقع عيناه على احسن المكان الواقع بين دجلة والكحلاء حيث توافر الهواء النقي من الجوانب الأربعة للمدينة.فنزل الجيش في هذه المنطقة التي أطلق عليها اسم” الأوردي” حسبما يشيراليه الدكتور كريم الكعبي،في كتابه (الحياة الشعبية في ميسان ــ دار الضياء/2010).
يشق مدينة العمارة نهر دجلة الرئيس،وبذا فهي تصبح (صوبين)تربط بينهما ثلاثة جسور ثابتة مع جسرصغيرعائم للمشاة.هذاالأمتداد التاريخي طبع الحياة الميسانية بطابع اجتماعي خاص تبعا للظروف الاقتصادية والجغرافية التي سيرت ابنائها.وشكلت ميسان باقضيتها ونواحيها وقصباتها نسيجاً اجتماعيا نادراً،عبر التعايش السلمي للطوائف،حيث عاش (الصابئة المندائيون) هنا قرب الأنهار واجتهدوا في صناعة المشاحيف بأنواعها ومنذ القدم في أمكنة مثل قلعة صالح والمشرح والكحلاء،وتتركز صناعة المصوغات الذهبية والفضية وبيعها في سوق قائم بذاته يتوسط مدينة العمارة،مع احتفاظها بخصوصياتها الدينية وممارسة طقوسها في مركزها الديني المسمى (المندى).
السوق الكبير ابرز معالم المدينة ،وخصيصته التراثية والفنية انه معقود بالطابوق المبني مع الجص،تحف به النوافذ العالية المطلة على المارة، والتي كانت بمثابة خانات (فنادق) للمسافرين والمتبضعين في أزمنة مضت،السوق على شكل جناحين،جناحه الأيمن خصص لبائعي القماش وخانات التبضع، جناحه الأيسر محلات لبيع وتصليح الساعات واجهزة الموبايل ..تستوفقك عند مدخلهِ (المكتبة العصرية)وهي تعتبرمن اقدم المكتبات لبيع الكتب والصحف والقرطاسية،ونشرت عنها التحقيقات في اكثر الصحف والمجلات العراقية والتي يشير تاريخ تأسيسها الى عام (1929م)..لتصبح محط مثقفي المدينة يوميا لشراء الصحف واخر المطبوعات. يقفز المكان كتصريح وجودي تنتثر دلالاته،ويشكل(شارع المعارف)في مركز مدينة العمارة/تحول اسمه الى شارع التربية/حاضنة تتوالد على مرّ العقود التي مرت،تنهض من أعطافها ذاكرة تبوح بخيط أسرارها وما قاله الرواة،وما مرّ به من أحداث…شارع تتجدد صورهُ محتفظا بمخططه الجغرافي (عيادات أطباء،كماليات، متجرات، الخ)مكتسبا هويته(شارع المعارف) من كثرة المكتبات التي توالدت على جانبيه(كتب/قرطاسيه)..كل هذا يشكل بمجمله مركزا حضريا فيه انعكست حياة المدينة..مظهرها الخلاق التنوع في الأزياء التي يرتديها المارة…عابرة أقصى موديلاتها في ارتداء بناته اللاتي يتسوقن أحدث مايستجد من عالم الموضة،محققا غرضهُ الجمالي عبر هذا الحضور اللافت.
شارع التربية،هو الشريان الأبهرللحياة هنا ،فهو يضم عيادات الأطباء والصيدليات ومحلات الألبسة الفاخرة للرجال والنساء،وتتصدر المحلات الزجاجية والعمارات ذات الطوابق واجهة الشارع السوق والتي تخفي خلفها أبنية هُدمت ودرست اثارها،ابنية كانت تشكل طرزأ في البناء كالشناشيل والمدرسة اليهودية والحمامات،لتستعمرها الأبنية الحديثة بواجهاتها المعدنية (الألكبوند)…!! لتنعطف بنا الخطى نحوأثرفني وديني وإنساني الا وهو (كنيسة أم الأحزان) التي يشير زمن بنائها الى عام (1881م)،وخلفها بناء متهالك هو كنيسة (السريان) وانقاض مهدمة كانت تشير الى ان هذا هو(المعبد اليهودي).!!.وكنيسة ام الأحزان حظيت بترميم اعاد لها هيبتها،وكانت طيلة العقود التي مضت محجاً للعوائل المسيحية القاطنة في العمارة والتي تزيد النسيج الاجتماعي بهاءاً وزينةً وحياة وهي تمارس طقوسها وتحيي مراسيمها واعيادها داخل قاعة الكنيسة ،،التي تحمل ارواحنا لها ،الكثير من الذكريات ونحن نعيش كعائلة بالقرب منها..وليس بمستغرب ان تجد وترى نساءا وفتيات مسلمات يقدمن شمعاً وحناء لهذا المحفل الديني ليطلبن من السيدة العذراء الإيفاء بنذورهن.
/كانت أمي تحملُ شموعاً بيضاء تضاءُ عند
أقدامِ العذراءِ المنتصبةِ في((بيت لحم)) حجريٍ
وسط الكنيسة..كانت تقدم النذور لفتى منذورٌ دمهُ
لنصــــــالِ الحروبْ../
للحدائق حضورها اللافت والمتجذروهي تحاذي شواطئ نهر دجلة،مما جعلها مركزا ترفيهيا (كازينو هات) تستطيب فيها الأنفس وهي تريق تعبها وساعات فراغها بلعب الدومينوواحتساء الشاي والعصائر وتبادل الأحاديث واجترار الذكريات على زمن آمن مضى كانت تسهر فيه حد الفجر..
ولأن الأمكنة بعضها يتجدد وبعضها الأخر يندثر،تتكشف واجهات جديدة،تقف الحداثة عند بواباتها ويغذُ الربح التجاري فعله في مفاصلها../ كان شارع دجلة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يطل على المارة ببنائيين يتقابلان ،الأول يتوسط الحدائق هو بناية (البريد والبرق) ،وبمعمار فني لايخلو من هندسة تشغل المكان،واللافت فيه هو(الساعة الجدارية) التي تعلو المبنى،والتي سكتت عن عد دقائقها وانصهر زمنها وعقاربها في ظروف غامضة.
يقابلها بناء هُّد منتصف التسعينيات هو قصر(محمد العريبي او قصر فتنة) الذي يعد علامة مائزة في طريقة بناءه،لاحتوائه على عشرات الغرف وبثلاثة طوابق مع حديقة تحيط بباحة القصر،والذي شغلت فيه المنظمات الثقافية الكثير من نشاطاتها الثقافية والفكرية ابا فترة الستينات والسبيعينيات من القرن الماضي ليستقر قبل الهدم فرعا لنقابة المعلمين.