رواية 451 فهرنهايت من أجمل الأعمال التي تصدت للارهاب الفكري
لطفية الدليمي
ظهرت الرواية سنة 1957 وأحدثت ضجة في الأوساط الثقافية لأنها أدانت الحقبة المكارثية، عندما مارس الجنرال الأميركي إرهابه الفكري بعد الحرب العالمية الثانية ولاحق المفكرين والكتاب والفنانين وأحالهم الي المحاكم وسجن الكثيرين منهم بتهمة إنتمائهم لليسار ومنعت كتب الكثيرين منهم في امريكا واستخدم هو ومؤسساته عدداً هائلاً من المثقفين كمخبرين وكاتبي تقرير ومن بين الذين استخدمتهم المكارثية لفترة طويلة الكاتب البريطاني (جورج اورويل) صاحب مزرعة الحيوانات و(1948)!
رواية 451 فهرنهايت من أجمل الأعمال التي تصدت للارهاب الفكري ويعد المشهد الختامي فيها من أروع مشاهد المقاومة الانسانية للقهر والارهاب في مدينة تحرم قراءة الكتب والتعامل بالكلمات المكتوبة وقد ادهشنا المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو الذي قام باخراج الفيلم بالعنوان ذاته حيث يرينا في الغابة وراء النهر خارج مدينة التحريم الفكري جمعاً من رجال ونساء وأطفال وقد تحول كل منهم الي (كتاب حي) وقد حفظوا الكتب العظيمة في التراث الانساني عن ظهر قلب، فنجد رجلاً اسمه (الحرب والسلام) يردد عبارات تولستوي وهذه امرأة حفظت رواية (أنا كارنينيا) وهناك آخر حفظ ثلاثية (دروب الحرية) لسارتر، وهذا صبي يافع هو (دافيد كوبرفيلد) وذلك الرجل هو كتاب (الجريمة والعقاب) والآخر هو (البؤساء)، وعندما يشرف أحد الشيوخ علي الموت وهو حافظ أحد كتب العباقرة يقوم بتلقين مضمون الكتاب كلمة كلمة لصبي صغير قبل ان يلفظ أنفاسه الاخيرة، ثم عندما يتم المهمة يغمض عينيه مطمئناً.. وقد ضمن وصول الرواية إلى جيل جديد سينقلها إلى المستقبل مرة أخرى.
وفي هذا الجو المشحون بالإثارة الروحية والعاطفة الانسانية وإحساس المقاومة بنجاح خطتها، يلتقط المخرج صورة مقربة لقدم رجلٍ في جوارب مثقوبة وعندما ترتفع الكاميرا الى الاعلى نقرأ (كتاب الأمير لميكيافيلي).. يضحك الرجل ساخراً ويقول:
ــ لا تحكموا على الكتاب من غلافه..
يقدم لنا (برادبري) تصوره عن نظام ديكتاتوري يصدر قراراً بتحريم الكتب ويحظر التعامل بالكلمات المكتوبة ويعاقب من يمتلك الكتب بالسجن وتحرق كتبه علانية في الساحات العامة.
وتكمن مفارقة النظام الإرهابي الذي يقلب وظائف الاشياء إلى ضدها في تحويله فرقة إطفاء الحرائق إلى فرقة إحراق الكتب وتسمي فرقة (451 فهرنهايت).
يقول رئيس الفرقة: (..إننا نريد إشغال الناس بمسابقات الأغاني ونريد حشو أدمغتهم بمعلومات لاقيمة لها حتي يشعروا بأنهم بارعون وراضون عن أنفسهم بينما هم في حقيقة الأمر لايفكرون في شيء ذي قيمة..)
حرق الكتب سمة بارزة من سمات عصور الارهاب وعلامة انحطاط كل عصر ووحشية كل نظام وظلاميته.
وعندما يعجز أي ديكتاتور عن مقاومة الوعي المضاد لسلطته يعمد إلى وسائل مختلفة لقمع العقل وتعميم الجهل , وهذا ما حدث لبغداد في سنة 656 عندما أحرق المغول المكتبات و ألقوا بالكتب التي لم تحترق في دجلة فإمتزج حبر الكتب بدم الضحايا، وفي ثمانينيات القرن العشرين أحرقت المكتبات في مدينة النجف وأشرف عليها أحد نواب رئيس الجمهورية وكان يقلب المخطوطات الثمينة ويلقي بها دون أن يدرك فحواها في اللهب بدم بارد وكأنه يتلذذ بحرق مؤلفيها.
وفي أوائل القرن الحادي والعشرين الذي كان يتوقع أن يغدو قرن المعرفة والفكر وحوار الثقافات تحرق مكتبات بغداد العامة وتنهب مكتبة المتحف العراقي مع ما نهب وحُطّم من نفائس آثاره، وتحرق مكتبات الجامعات وتنهب المخطوطاات ووثائق الدولة واراشيف ا الثقافة..
لقد سرقت أثمن المخطوطات وأندر الكتب واللوحات الفنية وتم تهريبها الي الدول المجاورة وبيعها لتجار المأثورات، ونهبت متاحف بابل والناصرية وكركوك ومتاحف المحافظات الاخرى وأحرقت عشرات الاف الكتب والوثائق حين هجم المتوحشون علي المكتبات تحت سمع وبصر قوات الإحتلال، وشوهد أحد مديري المكتبة الوطنية ينقل الكتب والمخطوطات الثمينة في سيارة نقل مدعياً حرصه علي حمايتها وإختفى وإختفت معه المسروقات.
من سيعني بكل المفقودات ومعظم العاملين في إدارة الدولة الهشة منهمكون في المأدبة الكبرى وغارقون في تحديد الأنصبة والأسهم والحصص السياسية وما يتبعها من حصص إقتصادية وممتلكات ومواقع؟ ا
لقد تنبأ (راي براد بوري) بما سيؤول اليه مستقبل الفكر الانساني عندما تسقط المعرفة وتهيمن سلطة الجهل ويتحكم التلفزيون ببرامج مسابقاته وألغازه في حياة البشر محولاً الجموع إلى قطعان مدجنة تلتهم برامج المنوعات والأغاني والمسلسلات وتدمن عليها فلا تعود معنية بما يحدث وبما يهدد الإنسان ولا تأبه بأي شأن من شؤون الحياة والمخاطر التي تفترس المجتمع وإستشرف (براد بوري) مستقبل الإنسانية عندما توقع صعود القهر والتسلط والإرهاب في بعض بلدان عالمنا المعاصر وكيف سيتحول البشر المحرومون من المعرفة والثقافة إلى كائنات تحيا لإشباع غرائزها الاولية وتقاوم البؤس والتعاسة والعجز والأرق بإلتهام الحبوب المهدئة والحبوب المنومة والمخدرات ولا ترى الدنيا الا من خلال شاشة التلفزيون التي تتحكم بالأفكار والأنشطة والآمال وتدور حولها تفاصيل حياة الناس المرتبطة بشهوة الثراء وإمتلاك النساء الجميلات والسيارات الفارهة.
في المدينة اللامسماة وفي عصر غير محدد بزمان وربما هو عصرنا الذي توقعه (براد بري) تداهم فرقة (451 فهرنايت) المنازل التي يبلغ عنها جواسيس النظام المرتعب من وجود الكتب وسيادة العقل ويقوم رجال الفرقة بتحطيم أثاث المنزل والخزائن ويلقون بالكتب التي يعثرون عليها في باحة البيت ويجري حرقها باستخدام قاذفات اللهب لتكون عبرة للآخرين ممن يتجرأون علي إقتناء الكتب.
الرجال الذين تدربوا ليكونوا حماة للحياة عن طريق إطفاء الحرائق حولتهم سلطة دولة الإرهاب إلى رجال مدمرين يقومون بإفناء المعرفة الانسانية وتراث الابداع البشري, يقول أحد رجال الفرقة المسمى (مونتاغ):
الكتب مجرد نفايات تسلب الناس السعادة وتقلق حياتهم وتجعلهم يتمردون علي المجتمع لذلك يجب حرقها.
ويخبر الفتاة التي يتعرف عليها وهي تسكن في الجوار إن عمله في حرق الكتب ينطوي علي كثير من الإثارة والتجديد. فمثلاً نحرق اليوم الإثنين (ميللر) ويوم الثلاثاء (تولستوي) ويوم الأربعاء (ديستوفسكي) وفي يوم آخر (سارتر) و(ماركس) و(نيتشه).
إنه عمل مسلٍ ومجزٍ فإننا نعتاش على حرق الكتب مثلما يعتاش الآخرون على مهن أخرى. إنها مهنة مثل كل المهن. مهمتنا حرق هؤلاء الكتاب دون إستثناء (وهكذا نحولهم الي رماد) يقول للفتاة التي تسأله بشيء من الفضول:
ــ إذن هل أنت سعيد؟
ــ لا يعرف الجواب.
ــ هل جربت أن تقرأ أحد الكتب؟
ــ لا.
ــ حاول أن تفعل.
يبدأ (مونتاغ) بسرقة بعض الكتب من تلال الكتب المعدة للحرق وتستيقظ لديه الحياة. يتنبه العقل والجسد والمشاعر في الوقت الذي تتحول زوجته الي مدمنة مثالية للتلفزيون والحبوب المهدئة وتغدو مجرد (روبوت) بلا وعي ولا مشاعر وتراقب تحولات زوجها وترتاب في كونه يمتلك الممنوعات.
يتفق مونتاغ مع صديقته علي اللقاء وراء النهر، ولكن بعد أن يتم مهمته الشاقة التي قرر القيام بها بعد تحوله الي رجل آخر. في هذا الوقت تدهم الفرقة منزل سيدة مسنة تملك الافاً من الكتب ويجري تكديس الكتب وتشعل عود ثقاب (لن تحرقوا الكتب بدوني، سأموت مع كتبي) وهكذا تفعل، تضحي بالحياة التي لاتعني لها شيئا بلا كتب وكنوز معرفة ..
تقول: لاحياة لي بدونها.
يخبر (مونتاغ) صديقته بإجرائه الذي سيحطم النظام من داخله، سيدس كتاباً من الممنوعات لدي كل حارق من اعضاء الفرقة ويبلغ عنه، لتنهار الفرقة ويتوقف عمل الإرهاب الفكري الذي تؤديه الفرقة، لكن زوجته تبلغ عنه قبل أن يقوم بذلك وتحاصره الفرقة ويعثرون على المحرمات في منزله لكنه يستخدم قاذفة اللهب لمهاجمة أعضاء الفرقة ويهرب إلى موعده مع الفتاة حيث يلتقيان مع أناس الكتب , وهناك يقوم عالم عجيب من البشر الذين قاوموا إرهاب السلطة ورفضوا الخضوع لبرنامجها التجهيلي، وأقاموا مجتمع العقل في الغابة وعاشوا في حذر وخوف لأنهم يحملون أثمن أسرار البشرية ونتاج عقولها ومخيلاتها , وتنتهي الرواية عند هذه المأثرة الانسانية الرفيعة: تحول