اجرى الحوار

نصير الشيخ

ــ بعد ان قاد طلائع التجريب المسرحي مع مجموعة من الشباب المسرحي للوصول

الى ابعد نقطة من اهوار ميسان لإيصال رسائلهم عبر الفن المسرحي في سبعينيات القرن الماضي ، ظل منقبا ثراً عن عوالم جديدة في حقول الأدب والفن..ليكتشف الآداب الأخرى عبر دراسته الأكاديمية في كلية اداب بغداد (اللغات) قسم الأدب الفارسي،، ليستكمل مشواره مغتربا عن وطنه، مقيما في سدني /استراليا.. يصل اليها محملا بشهادات حية ونابضة عن حيوات وتفاصيل يدونها على شكل سردية تنتمي لروحه التواقة لعوالم الجمال ولعراق ظل يعيش معه ،،من هنا كان لنا هذا الحوار عند اروقة الرصيف المعرفي في مدينة العمارة مع الروائي والمترجم المغترب (حسن ناصر حسين)…

@ كتابك، مختارات مترجمة عن نصوص بورخيس،،ماالجدة التي تحملها ترجمتكم عن عوالم هذا الكاتب الكوني…؟

لم أكن أفكر في مسألة الجديد الذي يمكن أن تحمله ترجمتي لبورخيس ولكني كنت استجيب لرغبة داخلية عميقة في نقل نصوص أحببتها الى العربية. النصوص التي ترجمتها من قصصه ومقالاته وشعره كانت في الغالب نصوصا أعدت قراءتها مرارا وكنت استمع الى صداها العربي يتردد في رأسي وكأني ترجمتها من قبل في عالم ما. علي أن أقول أيضا بأني ونتيجة لدراستي الاكاديمية للترجمة في جامعة غرب سيدني على أيدي أساتذة هم أعلام في عالم دراسات الترجمة مثل ستيوارت كامبل وبولان دي جيته وساندارا هال فإني على الضد تماما من الترجمة عن لغة ثالثة ولكن مابرر لي القيام بترجمة بورخيس الأرجنتيني عن اللغة الإنجليزية هو اشراف بورخيس نفسه على تلك الترجمات من اللغة الاسبانية الى الإنجليزية وهو كما تعرف بروفسور في اللغة الإنجليزية وآدابها. ترجمت في البداية نصوصا أحببتها مثل مكتبة بابل والخرائب الدائرية وبعضا من قصائده وهنا شجعني أصدقائي على المضي بالترجمة وإصدار كتاب ومن هؤلاء الأصدقاء الأدباء أخص بالذكر خضير النزيل وفاضل الخياط. لقد كانت ترجمتي لبورخيس الى العربية متعة حقيقية رغم مشقتها ومتطلباتها الهائلة حيث كان علي في الغالب أن أراجع مصادره الأدبية والفلسفية والتاريخية. من المعروف أيضا أن بورخيس نفسه كان مترجما وكتب في الترجمة ورغم انطباعية مقالاته إلا أننا يمكن أن نرى فيها فهما عميقا لفعل الترجمة. كان بورخيس يفخر وكما يقول بأنه الاسباني الأول الذي وطأت قدماه قارة عوليس لجيمس جويس إذ كان أول من ترجم فصولا منها وكتب عنها. الحافز الآخر الذي دفعني الى ترجمة مختارات من بورخيس هو أني وجدت أخطاءا مخجلة وكارثية أحيانا في ما أتيحت لي قراءته من ترجمات لنصوصه الى العربية. على العموم ليس لي أن أحدد مستوى ترجمتي فهذه مهمة كل قاريء لتلك النصوص ومقارنتها بالترجمات الأخرى أو بالنصوص الأصل ولكني أيضا سعيد بما قرأته من ردود فعل على كتاب سداسيات بابل. أعتقد بأني فهمت بورخيس جيدا وبذا بررت لنفسي ترجمته الى العربية.

@ الترجمة خيانة…هل استهلكت هذه العبارة باعتقادك،،ماعوالم الترجمة التي تطل برأسها في القرن الواحد والعشرين…؟

نعم، يمكن القول بأنها عبارة أو إفادة مستهلكة وتريد اختزال ما لا يمكن اختزاله من إشكاليات والتباسات متناسلة. لا تنسى أيضا بأنها تعبير قديم ينتمي الى زمن غير زمننا هذا حيث تتبارى الثقافات الآن بمدى قدرتها على الانفتاح والتلاقح مع ثقافات أخرى. من البديهي أن الحي من الثقافات هو القادر على أن يكون مؤثرا ومتأثرا. بل يمكن اعتبار الترجمة هي الميدان الحقيقي الذي تستكشف فيه لغة ما أو ثقافة بعينها – بقول أدق-  قدراتها الجمالية حيث تتفتح فيها مديات جديدة وتراكيب جديدة. لا يخفى أيضا أن الكثير من الإضافات التي شكلت لغتنا العربية المعاصرة بشكل عام واللغة والأساليب الأدبية بالاخص ناتجة عن تأثير الكتب المترجمة وأعلام المترجمين العرب الأفذاذ في عقود القرن العشرين. يناقش كل من لورنس ڤينوتي وآندريه لوفيفريه اشكالية تجاهل النقود الأدبية لتأثير المترجمين في الأدب وهذا أمر شائع حتى منتصف القرن العشرين بل قل أن النظر بجدية الى الترجمة وتأثيرها هو أمر حديث نسبيا في كل الثقافات. لقد أثرت الترجمات في الأدب العربي ومدته بحياة جديدة وهذا مما لاشك فيه مطلقا. هذا الوجه المشرق المشرّف للترجمة، أما المترجمون الخونة فهم أولئك الذين يترجمون نصوصا لا يفهمونها وهذا امر يكاد أن يكون شائعا في العربية للأسف الشديد. الترجمة الخائنة لا تخون النص الأصل بل تخون اللغة المنقول اليها وتخون قارئها وهنا المأساة. قرأت كتبا مترجمة لم يفهم مترجموها من الأصل شيئا وبدلا من الاستعانة بستراتيجيات للتعامل مع مشاكل الترجمة من لغة الى أخرى استعانوا بستراتيجية غبية هي تورية فهمهم الملتبس الركيك للأصل. الأمثلة كثيرة ولست في صدد كشفها أو فضحها ولكني أفضل التركيز على أن هذه الخيانة ستبقى حية طالما ظل المجال الاكاديمي للترجمة ضعيفا وجامعاتنا خاملة كسولة ليس بإمكانها اصدار مقارنات جدية ورصينة تتقصى مشاكل الترجمة بين الأصل والمترجم وتنتج رقابة اكاديمية نوعية تحاسب الخونة مثلما يحدث في الغرب حيث تتناول الاطاريح الجامعية هذا الموضوع وحيث تكوّن مجتمع اكاديمي رصين يصون هذا المجال.إن غياب نقد الترجمة الذي يقارن بين الأصل وترجمته عامل أساسي في جعل مجال الترجمة فوضوي واعتباطي حاله حال نظام المرور والاقتصاد والانساق الإدارية في بلداننا. لا يمكن عزل الترجمة عن أي مجال من مجالات الحياة الأخرى في الثقافات كلها. 

@ روايتك الأولى ((قلعة محمد الباب)) الصادرة في اول تسعينيات القرن الماضي…هل كانت ممهدة لروايات المنفى،،باعتقادك..؟

لا يمكن القول انها كانت ممهدة ولكنها على المستوى الشخصي كانت ممهدة لانقلابات ذاتية وجمالية متعلقة بفن الكتابة. أعتقد الآن أني غادرت مرحلة من حياتي الى مرحلة أخرى بعد اتمامي تلك الرواية ونشرها. انها رواية قصيرة ولكني حاولت بلا هوادة تحميلها كل ما كان يعتمل في داخلي بعد أن غادرت العراق في أعقاب انتفاضة آذار 1991. الرواية برمتها انطلقت من عبارة قرأتها في واحد من كتب التراث ومفادها «شر الأمراء أميرٌ يخافه البريء». أظن أن الفترة التي تتحدث عنها الرواية هي عصر رعب الأبرياء. أنا لم أنشر قبل خروجي من العراق سوى القليل جدا مما لا يتجاوز عدده أصابع اليد وذلك لأني لم أكن أريد الانخراط في الماكنة الدعائية للنظام آنذاك. لذا وبعد خروجي من العراق شعرت بواجب أن أدلي بشهادتي وشهادات أصدقائي وناسي الذين قضوا في السجون أو في الحرب. كانت «قلعة محمد الباب» شهادة أردت تدوينها لألقي عن كاهلي عبئا من الذكريات والأمانات. لذا وكما قلت في مناسبات أخرى كنت بطريقة ما هوارشيو الذي يتوجب عليه أن يقص الحكاية. في نهاية مسرحية هاملت يزمع هوارشيو على الانتحار مع صديقه المحضر هاملت ولكن الأخير يمنعه ويطلب منه أن يروي قصته الحقيقة. نعم كنت أحس بأني هوارشيو لعدد هائل من الأصدقاء. كان من الصعب علي أيضا أن اقتنع بأي نص أكتبه ولكني أحسست بأن الأوان حان وهكذا عملت عليها بجد ليل نهار وعشت فيها من اجل اكمالها. بعد أن نشرتها صرت حرا وهكذا واصلت تجربتي في الكتابة مخلصا للفن نفسه وليس لذاكرتي.

@الرواية العراقية الآن في ربيعها،،هل نستطع القول ان ثمة خطابا روائيا عراقيا مائزا لدينا….؟

اذا أخذنا العدد بنظر الاعتبار، نعم يمكن الحديث عن ربيع في الرواية العراقية ولكن كي أكون صادقا ومخلصا معك واتحاشى المجاملة هنا لا أعتقد أن الرواية العراقية بمستوى الثراء التراجيدي والكوميدي أو التراجيكوميدي الذي يشهده الواقع العراقي والحياة اليومية في العراق منذ عقود طويلة. هناك على سبيل المثال روايات هائلة ومخيفة بثرائها في ما سطره شيخنا الكبير علي الوردي في لمحاته عن المجتمع العراقي. هناك ثراء واسترخاء عظيم في نخلة غائب طعمة فرمان لم يتح لي أن أقرا نظيرا له في ما اتيحت لي قراءته من الروايات العراقية. الميزة الحقيقة التي لم تنقل عدواها الى الرواية العراقية كامنة في الواقع العراقي وتاريخه. أرى أننا ما زلنا نكتب بتشنج مأخوذين بما يمكن أن يجنيه انجازنا الروائي بعيدا عن صدقنا في التعبير عن تجاربنا. في روايتي «غيوم على الرصيف» لم استطع الحديث سوى عن العراق وعن ذاكرته وتاريخ شواخص العمارة تحديدا التي حاولت زرقها بخيال تاريخي وربما كابوسي يعكس تجربة جيلنا. وأكتب الآن رواية عن رماد البلاد . لا استطيع أن اتحدث عن حياتي خارج العراق دون الإحساس باني اخون ذاكرتي وجذوري. ربما بعد سنوات من الان أجلس لكي أكتب عن تجربتي خارج العراق. أتذكر في منتصف التسعينيات دعاني بعص الأصدقاء الى الانتماء الى جمعية استرالية للمغتربين العراقيين فرفضت لأني وكما قلت لهم أنا لم أغادر العراق بعد. الشوط ما زال في بدايته وعلينا ان نأمل في الكثير الذي يحمله المستقبل.