سهير آل ابراهيم
السجن في الدول التي تحترم الانسان كالمستشفى التي يدخلها المريض ليخرج منها معافى
دعتني صديقة لي للذهاب معها الى واحد من صالونات الحلاقة الجديدة. قالت انها تريدني أن أذهب معها الى ذلك الصالون بالتحديد لغاية في نفسها، بعيدة عن قَص الشعر و التجميل، فدفعني الفضول لقبول الدعوة
و في اليوم المحدد، أخذتني الى محل حديث أنيق، في واحد من الأحياء المرموقة في مدينتنا هذه. كانت الحركة دائبة فيه؛ كل العاملين و العاملات كانوا مشغولين بتقديم مختلف الخدمات للزبائن من النساء و الرجال؛ ما بين قَص شعر أو صبغه أو مجرد تصفيفه ، أشارت صديقتي الى رجل كان مشغولاً بحلاقة شعر أحد الزبائن، قالت هذا صاحب المحل، و هو سجين سابق، أمضى تسع سنوات في السجن بسبب جرم ارتكبه، و قد تعلم الحلاقة في السجن.
جاء الرجل لتحيتنا بعد أن أنهى عمله، فهو يعرف صديقتي معرفة شخصية. و بعد ان قامت بتعريفنا ببعض، طلبت صديقتي منه أن يحدثني باختصار، و حسب ما يسمح به وقته، عن اختياره لمهنة الحلاقة قال: “كنت غبياً عندما ظننت أن بإمكاني توفير حياة كريمة لعائلتي عن طريق كسب المال بطرق غير مشروعة”. قال ان عمر ابنه كان بضعة أشهر عندما صدر الحكم بسجنه، و انه في تلك اللحظة فكّر ان عمر صغيره سيكون أكثر من تسع سنوات عندما يتم الإفراج عنه، أي انه لن يسمع أول كلمات ينطقها ذلك الصغير، و لن يكون موجوداً ليمسك يده الصغيرة عندما يخطو أولى خطواته.
قال انه تخيل تسع سنوات خلال لحظات، و رأى من خلف القضبان ولده و هو يطفيء شمعته الاولى.. و هو يجتاز بوابة المدرسة للمرة الاولى.. أول صديق لابنه و اول كلمة يكتبها! حينها اتخذ قراراً أن يرمي الماضي خلفه و أن يبدأ صفحة جديدة من حياته، قرر أن لا يضيع الوقت و يبدأ منذ تلك اللحظة بالاستعداد للحياة خارج السجن.
دفعني اللقاء بذلك الرجل الى البحث و محاولة ايجاد المزيد من المعلومات حول السجون البريطانية، و التي قد لا تختلف كثيراً عن السجون في بقية دول العالم المتحضر.
يوجد في بريطانيا موقع الكتروني حكومي يتضمن كل ما يحتاج المواطن معرفته عن الخدمات التي تقدمها الحكومة له، في مختلف جوانب الحياة كالتعليم و العمل و الرعاية الاجتماعية و ما يتعلق بالمواليد و الوفيات و غير ذلك الكثير. و لدهشتي فقد وجدت معلومات تفصيلية عن السجون في ذلك الموقع! صفحات تشمل معلومات عن الحياة في السجن و حقوق السجين و الخدمات التي تُقدم اليه تتوفر للسجناء في بريطانيا فرصة الدراسة و الحصول على شهادات تؤهلهم فيما بعد للعمل في مجالات متعددة، كما تتوفر فرص التدريب العملي لإتقان مهارات مختلفة تساعدهم على ممارسة مهن يرغبونها؛ كالحلاقة مثلا، أبدى ذلك الرجل رغبته في تعلم مهارة الحلاقة، فكان له ما اراد؛ حيث التحق ببرنامج دراسي تدريبي، حصل في نهايته على شهادة الكفاءة للعمل بمهنة الحلاقة، و كان قد أبدى براعة في ذلك المجال وفق شهادة مدربيه. و بعد خروجه من السجن حصل على قرض من الحكومة مكنه من شراء الأدوات التي يحتاجها لتلك المهنة، و افتتاح محل صغير شكّل بداية حياة جديدة في النور، بعيدا عن عالم الجريمة المظلم.
اعتقد ان اهم جانب من جوانب الحياة الجديدة لذلك الرجل، هو تقبُّل المجتمع له، فَلَو قاطَعَهُ الناس و رفضوا التعامل معه لانه سجين سابق، لما إستطاع أن يعمل و أن يعيل أسرته، و لربما كانت تلك المقاطعة سبباً لرجوعه الى عالم الجريمة.
من خلال قصة هذا الرجل، تبين لي أن السجن في الدول التي تحترم الانسان و حقوقه، هو كالمستشفى التي يدخلها الإنسان مريضاً و يخرج منها معافى. فالسجن أصلح هذا الرجل و أعاد تأهيله، فأرجعه لأسرته زوجاً و أباً يعمل ليوفر لنفسه و لهم حياة كريمة، و أرجعه للمجتمع مواطناً يدير عملاً شريفاً يوفر خدمة للناس و فرص عملٍ للبعض منهم، كما انه أصبح من دافعي الضرائب، و الذين يشكلون شريحة مهمة تساهم بجزء لا يستهان به من الميزانية المالية للبلد.
أما سبب دعوة صديقتي لي للذهاب معها و التحدث الى ذلك الرجل، فكان جواباً على سؤال كنت قد وجهته لها سابقاً: ما هو رأيها بعقوبة الإعدام؟