مجلة النجوم – سيدني

بقلم الكاتبة الروائية: دينا سليم حنحن

لن أخبرَكم عن شجرة التُّفاحِ التي أسقطت آدمَ من الجنّة

بل سأُخبِـرُكم عن القطرة الواحدة التي تساوي عمرَ إنسان

منذ هطلـِها وحتى انسيابـِها في السّيل.

سوف نذهب إلى منطقة لها مميزاتها الخاصة، فما نشاهده في هذه الرحلة لا يمكننا نسيانه، لاسيما عندما نجد أنفسنا،  وكأننا خارج مدار الزّمان، والمكان.

استوقفتنا بقايا سفينة غارقة، ذكرى حرب شاركت فيها أستراليا سابقاً، حطامها أخذنا إلى عهد حزين، تساءلنا، وعلمنا، أنّ كابتن الصارية، تدرج منها مأموراً بعد انتهاء الحرب الثانية، وتدرج خلفه سرباً من الجنود، تاركين ملابسهم، وأحذيتهم الحربية داخلها، رقصوا، وتهللوا، وصرخوا ( انتهت الحرب، الحرب انتهت)، لكن حصل ما لم يكن في الحسبان، وجدوا أنفسهم على سطح بحر المرجان، أحال  من دون وصول اليابسة، فالنقطة التي وصلوا إليها ما هي إلا أرض رملية تشكلت من المدّ والجزر، جزيرة على مستوى البحر تتخبط برمالها الذهبية، نائية، وفارغة، أقرب يابسة مفتوحة منها تدعى (هاربي بي) مأهولة بعدد صغير جداً من السُّكان ذوات البشرة البيضاء  حيث تبعد  30 كم.

مضت سنوات الحرب شاقة، وعصية على الجنود الذين غادروا بيوتهم و أُسرهم، وعاد قليلون فقط.

بعد سنوات، أتى القرار من وحدة البحرية الأسترالية بإغراق الأسطول الحربي× لعدم توفر الميزانية لصيانته؛ لأن الحكومة أقرت بأنها لن تشارك نهائياً بأيِّ غزو بحري، أو جوي، أو بري في المستقبل، و آن الأوان للعمل× من أجل تطوير القارة الجنوبية.

بقيت آثار السفينة، تُركت قصداً؛ لتتحول إلى ملاذ آمن للأسماك، ومسكن الحيوانات البحرية الضخمة، موطن الحوت الأزرق، أسهم الحُطام في تكوين البكتيريا التي ساعدت بِتكاثر الثَّروة البحرية، وأصبحت فيما بعد مكاناً يؤمه السُّياح، ومحبي المغامرة، والاكتشاف، والمفارقة الكبرى، الأكثرية تظنُّ أنَّ حُطام الأسطول مِن مُسببات الحرب، وأنَّ السفن غرقت بالجنود، لكن الحقيقة  تكمن بِإغراق الأسطول عمداً، لكن أستراليا تتمتع بميزة حميدة، وهي أنه لا جيران لها سوى مياه المحيطات.

لنعد إلى شمال القارة الأسترالية:

تقع جزيرة <<فريزر>> على طول الساحل لـ ولاية كوينزلاند، على بُعد ما يقارب من 250 كيلومتر شمال مدينة بريزبن، يبلغ طول الجزيرة  نحو 120 كيلومتراً، وعرضها  نحو 24 كيلومتراً، وهي موقع  مهم لجذب السُّياح إلى أستراليا.

أكبر جزيرة رملية في القارة على الإطلاق، وتكثر فيها المياه الصَّافية، والجداول التي تنبع من بين الهضاب الرَّملية المشجرة، القطرة الواحدة تساوي عمر إنسان في منطقة نائية يؤمها المغامرون، تكثر فيها الحيوانات، والكلاب الأسترالية، وحيوان القوند الضَّحاك، والثَّعابين، والسَّناجب، والحشرات الطيارة، وحيوان النَّضناض، والعُقاب الناري، والعناكب على أشكالها، والدًّلافين، والورل، والسَّلاحف، كل ما ذكرته من حيوانات على اختلاف أنواعها موجود بصورةٍ طبيعيةٍ دون أن يكون الإنسان سبباَ في وجودها.

ضرب المصطافون خيامهم على الرِّمال الصَّفراء صحبةَ هدهدة الأمواج، قضاء أيام عديدة كفيلة أنْ تنسيهم العالم الخارجي نهائياَ؛ لانعدام وسائل الاتصال والنِّت، انتشرت ظاهرة التَّخييم داخل الأدغال التي تحاذي الشَّاطئ على نحو  متوقع.

أمضيتُ نهاراً كاملاً في عالم لا يشبهني، عالمٌ لا يمكنني فيه إظهار مواهبي في أي هواية، أو رياضة، أو السّباحة، المحيط عملاق، أعمى الخوف داخلي، بغتني هدوءً مخادعاً، وعانيت من التَّصلب في التَّفكير؛ بل نَقُل لقد تحولتُ إلى جماد، لم أحرك ساكناً سوى أنَّني انهمكت بِالتقاط الصُّور فقط، فقدت بوصلتي، وهواياتي في بقعةٍ موحشةٍ- إنْ صح التَّعبير- تخيلت بداية الخليقة، لكن دون وجود آدم وحواء! تجوّل غرباء حولي، وأنا المرأة التائهة بين عالمين، صامتةً لا ألوي على شيء، لكنني استخلصت فيما بعد أنّها رحلةٌ جميلةٌ، ودعوة للاختلاء بالنفس المتعبة، ومكان جميل لإعادة تأهيلها.

فقدتُ بوصلة الاتجاهات تماماً على أرض رملية متحركة، لم أستَعِدْ ذاكرتي إلا بعد أنْ استقللتُ الحافلة، أعادتني إلى العَبّارة التي ستعبر بي بحراً إلى أقرب مدينة

(هارفي بي)، حافلةً بسائق مجنون، اخترق الطُّرقات الضَّيقة بسرعةٍ فائقةٍ بين أشجار معمرة، أدغال، وغابات مطيرة لا تعرفك، ولن تنساها، الذهول وحده كان حاضر في بقعة لا تنتمي إلى خواصي المحتارة، وظلَّلت أتساءل، كيف استطاع، فيما مضى السُّكان الأصليين، الأبورجيين، إقامة حياة عليها؟

أغلقت الطَّبيعة أبوابها أمامهم فلم يرتقوا إلى أي حضارة، خاضعون إلى عاداتهم، وثقافاتهم، وتقاليدهم، يعيشون على الأسماك، وعلى كل ما ترميه لهم الأدغال من زواحف، وحيوانات، ويشربون من ينابيع تتدفق فجأةً، وتنضب!.

رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=12415