دينا سليم حنحن – بريزبن
السفر، هواية واكتشاف، وتمتع بجمال الطبيعة الخلاب.
مشروع كبير قمتُ به، زيارة جنوب القارة الأسترالية وتحديدًا ولاية فكتوريا، ولأكون أكثر دقّة، قيادة السيارة في طريق تحاذي المحيط العظيم،(Great Ocean Road)، يعد من التراث الأسترالي، قام بتعبيدها وتمسيدها الجنود العائدون من الحرب الأولى بين عامي 1919 – 1932، وخصص للجنود الذين قتلوا في الحرب العالمية.
يعد الطّريق السّريع، أكبر نصب تذكاري عالمي، ولم يكن من الممكن الوصول إلى الساحل الجنوبي الغربي الوعر لفيكتوريا إلا عن طريق البحر، أو ولوج مسارات عبثية داخل الأدغال الموحشة.
رحلة فيها الكثير من المغامرة، والتّحدي، والقيادة السّريعة على طول الساحل، تعدّ الطريق المذكورة إحدى الطرق الأكثر خطورة في العالم، وأهمها، وأكثرها انعطافا، وأشدها قسوة، من يمتطي الطريق يحسّ أنه داخل مشهد هوليودي، فإن حصل وأغمض عينًا يكن الموت، لا قدر الله، بانتظاره!.
تمتد الطريق على طول مئتين وثلاثة وأربعين كيلومترًا، مرورًا بمناطق مأهولة بالسكان، وبيوت مشيّدة على الأطراف المقابلة للساحل، تظهر بين الحين والآخرداخل الجبال والأدغال، وعلى مرمى الهضاب الخضر، مما يضفي سحرًا إضافيا ومشاهد غرائبية تهب المُشاهد تألقًا وفتنة.
على طول تلك الطريق، تبقى تردد قائلا: ياه، ما أعظم المحيط، وما أجمل زرقته!
وصلت الشاطىء بعد ساعات ومضيتُ قدمًا سيرًا على الأقدام، سرتُ داخل ممرات ومسالك أقيمت خصيصًا للمشاة ليتسنى الوقوف على حدود القارة الأسترالية، حيث تنتهي اليابسة نهائيا، ويبدأ مشوار آخر، مختلف، داخل المياه التي تصل إلى المحيط المتجمد الجنوبي.
ساقتني قدماي حيث قطع صخرية ضخمة، انتزعت من قلب اليابسة لتستقر بمفردها داخل المياه الصافية، صخور عملاقة يبلغ ارتفاعها خمسا وأربعين مترا، تغوص الكتل الصخرية الضخمة في المياه إثر انشقاقها عن اليابسة بمرور الزّمان، أثارني المشهد وأدخلني في حالة رعب غير مبررة، تتآكل اليابسة سنويًا سنتمرًا واحدًا نتيجة قوّة دفع الأمواج وكمية الأمطار المنهمرة بغزارة، يعني أنه كل عشر سنوات يصغر حجم القارة جنوبا عشر سنتمرات، أثارت الظاهرة انتباهي ودعتني إلى الغوص بحثًا، وتنقيبًا!
حثثتُ السير أعمق باتجاه الساحل البادئ في الانقراض، لأعثر بالمزيد من تفككات صخرية مكونة من الكلس، والكركار، وصخور رملية شكّلت كل صخرة بذاتها جزيرة، ونتيجة الظاهرة المذكورة تكوّنت الكثير من الكهوف، أخذ قسم منها شكل الأقواس، كنت كلما ولجتُ أكثر وصلت إلى مناطق نائية، ومكشوفة، حيث شاطئ أجرد يختلف كليا عن شواطىء ولاية كوينزلاند.
هي محض مغامرة، الوصول إلى المناطق البعيدة مشيًا على الأقدام، هناك جولات مخصصة للسير على الأقدام، تقدّر المسافة بمئات الأميال وغولا بين أحضان يابسة يتراوح عمرها ملايين السنين، لذلك يستعين البعض بطائرات مروحية لمشاهدة المزيد من الروائع الآسرة الآخذة بالذوبان، ويمكن الوصول إليها أيضا بالقوارب السياحية للتمكن من التقاط الصور للفسوخ الجيولوجي المدهش عن قرب. إنه لا يمكن حقا نسيان ما تلتقطه العين المجردة!.
« الاثنا عشر تلميذا» ذلك الاسم الذي أطلق على تلك المنطقة الرائعة والأكثر شهرة The Twelve Apostles، نسبة إلى السيد المسيح وتلاميذه، مشهد خلاب لاثنتي عشرة صخرة عمودية الشكل، صخور ضخمة تنتصب متشابهة تماثل الإنسان في هيكله، قد سقط بعضها في المياه بشكل حميمي، ومتناسق جدا حيث تعوم داخل المياه في مشهد خلاب لا سيما حين يتعالى فوقها قمر مقمر.
يمكن الوصول إلى تلك المنطقة مباشرة، والسباحة بلصقها تماما، حيث قامت وزارة السياحة بنصب السبل الخشبية، وبناء المراصد للمشاهدة عن قرب، وأقيم متحف خاص في المنطقة زُرِع داخل حديقة واسعة امتلأت بالمقاهي والمطاعم، وشيّدت بعض من الفنادق والمنتجعات حوصرت جميعها داخل حدائق تحاذي ميناء (كامببيل).
اكتشف المكان صدفة سنة 1922، واكتشف أيضا حطام سفينة قديمة اصطدمت بهياكل صخرية غير مرئية أقلّت مهاجرين وصلوا من أوروبا في القرن الثامن عشر، لقي المهاجرون حتفهم أثناء محاولة اقترابهم من اليابسة، فشيّدت مقبرة مفتوحة للزوار والسّياح، ثوت فيها أجسادهم التي هلكت في المكان بأسمائها الكاملة.
من يولد على الساحل يحيا على مضض
فربما يقتلعه البحر يوما ويسقط بلا عضض
كما سقط كل سنة تلميذ من تلاميذ المسيح
في منطقة لم يصلها أحد سوى الرجل الأبيض الذي دخل القارة الجنوبية.