مجلة النجوم – سيدني

بقلم الكاتبة دينا سليم حنحن

من يضيّع ماله في الصغر، على كبر، تتفتت أوصاله حزنًا وكمدًا.

ومن يستثمر ماله بالعلم، ينشأ على ثراء العقل، وميزات الرّوح النبيلة.

لم يصنع الفقراء في العصور الوسطى شيئا سوى البحث عن لقمة عيش مغمسة بالجهد والعبودية، وعسير الحال، لا يمكنه من نيل العلم ولا يمكنه أن يفكر بتطوير ذاته ومجتمعه، لذلك قبعت أوروبا في عتمة الجهل جيلا بعد جيل حتى ظهر شخص استطاع أن يرقى بالأمة وينهض بها فأشعل أول قنديل نحو العلم.

سأذهب بكم إلى فلورنسا – إيطاليا وتحديدا لنتعرف إلى عائلة آلـ ميديشي Medici التي تمتعت بنفوذ واسع فساهمت بحياة مزدهرة وهكذا انصبت مسؤولية النهوض بالأمة على عاتق أرباب المال وأصحاب النفوذ.

وكيف بدأت الحكاية؟

لقد ظهر تاجر صوف ومؤسس أول بنك تجاري في فلورنسا فيما بعد ويدعى جوفاني دي بيتشي دي ميديشي، في زمان كانت إيطاليا بحاجة ماسة لأمثاله، عصر تصارع فيه رجال الدين في روما على عرش البابوية، وقد لعبت عائلة ميدتشي الدور الأهم في تاريخ البلد من ناحية اقتصادية وسياسية وثقافية، وأصبحت فلورنسا المنافس الوحيد لروما التي قبعت تحت الحكم البابوي وذلك بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، من عام 1360م حتى عام 1743م، وخرج من هذه العائلة ملكتين وثلاثة بابوات.

قيل: أمران يجعلان الإنسان أكثر حكمة، الكتب التي يقرأها والأشخاص الذي يلتقي بهم.

لذلك سأقفز بكم إلى المكتبة التي أسستها العائلة المذكورة والتي ساهمت بتطوير الفكر والعلم وازدهار الحالة الثقافية في حينه، وبظهورها أغلق الباب على عصور الظلمات وفتحت أبواب جديدة نحو العلم بالطب والفنون والشعر ويدعى بعصر النهضة.

في فلورنسا، كلما أدرت وجهك تظهر قبة كاتدرائية (الدومو) التي بناها آلـ مديتشي وقد قامت ببناء جميع النواحي، وكلما عبرت شارعا تجد نفسك أمام عمل ابداعي بيد الخالد مايكل أنجلو وغيره ممن تدربوا على يديه، وكلما تبحرت أكثر في شوارعها تدخل في متاهة وتحاصرك الفنون الخالدة الواقعة على نهر أرنو الساحر.

 

 لقد توغلت بخطواتي الوئيدة وكاميرتي بيدي، وإذ بي أمام سور تاريخي بباب صدئ قديم مفتوح على حديقة مستديرة تتوسطها شجرة برتقال تتوزع منها الخطوط المتوزاية بشكل هندسي رائع، وللبرتقال حكايات أخرى تخص هذا العصر الثري منه بدأ تقدم الإنسان.

تكمن العظمة داخل مكتبة مصنوعة من الخشب بتصميم ونحت وتخطيط الفنان والنحات مايكل أنجلو أرضا وسقفا ومكتبات ومجالس، وقام أيضا بتخطيط الأرضية أو الممشى الذي يسير فيه طالبي العلم، وتحتفظ المكتبة حتى الآن بالكتب القديمة بمواضيع لا يتخيلها العقل حيث أثارتني التسؤولات عن نوعية المواضيع المطروحة آنذاك أمثال: الفلسفة الأغريقية، مؤلفات باتريس اللاتيني، قواعد اللغة اليونانية، المصادر الطبية للطبيب لورنسيانا، مصادر آل بروني للتواصل الاجتماعي، علم الفلك اللاتيني، علم القواعد اللاتيني، علم الفلك باللغة اليونانية، التاريخ باللاتينية، الشعر الأيطالي الخ من موضوعات غير مطروحة في يومنا هذا.

تعتبر مكتبة مديتشي أو مكتبة العمدان أقدم المكتبات في العالم، وإن أردنا أن نأتي على ذكر المكتبات التاريخية القديمة لا يمكننا ألا نذكر مكتبة الاسكندرية القديمة التي تأسست من (285 ـ 247) ق .م، ولهذا المكان قصة حقيقية يعود تاريخها إلى عام ‏48‏ ق‏.‏م عندما قام يوليوس قيصر بحرق 101 سفينة رست على شاطئ البحر المتوسط بعدما حاصره بطليموس الصغير، شقيق كليوباترا، حيث أحس أن يوليوس قيصر يناصر كليوباترا عليه، وامتدت النيران التي أحرقت السفن إلى مكتبة الإسكندرية فأحرقتها.

ويقال أنه ومنذ ذلك العصر تاه البشر في طريق النزاعات والحروبات التي أوصلته إلى طريق العتمة فتتالت السنوات على الإنسان الذي اتصف سلوكه بالوحشية، حتى ظهور آلـ مديتشي الذين حولوا الحياة إلى عصر النور أو عصر الانتقال الفكري ومد الجسور نحو المستقبل، وهو ما يسمى بعصر النهضة الذي بدأ ينتشر في أنحاء أوروبا أيضا.

في العلم يتساوى الفقير بالثري، وبالعلم وحده يبني الإنسان عشه القائم على هندسة متينة تليق بالمدنية السريعة ليصبح العش عمارة مكونة من طوابق توازي طوابق العقل المتنور.

رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=10704