مجلة النجوم – سيدني
تقرير: د. عبدالله ذبيان – فاطمة فتوني
تصوير: سمير مكارم
الموسيقى نبضٌ من قلبٍ مرهف، تأخذنا الهوينا إلى عالمٍ شفاف، ملؤه الألق وهدفه الانعتاق…
طوبى لمن يهجع إلى الموسيقى و”نوتاتها” وسلالمها الموسيقية، فهي غذاء الروح ونديم الاحساس، ورفيف الوجد، فكيف إذا كان المرء “موسيقياً”، يلحّن ويعزف ويدق ويطرب ويُطرب ويشنّف الآذان ويحيي السقيم!
وبعد الطوبى… مرحى أيضاً لصانع الآلات الموسيقية، وتحديداً الوترية… مطوّع الخشب، “مدوزن” الأوتار، المحافظ على التراث والماضي العتيد التليد بفضل أمثاله….
كل هذا يدور في مضمار الشاب اللبناني عماد البلاني، الذي خرج منذ نعومة أظافره عن سكة ما يتطلّع إليه شباب كثر هذه، فنزع إلى التغريد خارج سرب أترابه وأقرانه…
يقول البلاني لـ الميادين نت “لقد بدأ انتباهي لحب الموسيقى منذ الصغر عندما كان عمري ست سنوات ونصف، وأذكر جيداً حين كان والداي يسهران على شرفة البيت يستمعان إلى “اغاني الزمن الجميل “، كما يقال اليوم لـ “أم كلثوم وعود القصبجي، فريد الاطرش واسمهان وعبد الوهاب والسنباطي …الخ.
ويضيف ” في إثر ذلك عشقت الموسيقى وآلاتها فبدأت مع الفلوت المدرسي في المرحلة الابتدائية، ومررت بالغيتار والبيانو وفيما بعد إلى آلات موسيقية أخرى، لكن شغفي الكبير كان بآلة العود حيث بدأت تعلّم العزف بنفسي، أسمع وأطابق اللحن ثم عملت كعازف في بعض المقاهي والمطاعم”.
دراسة آلة العود
صقلت موهبتي بالدراسة في المعهد الوطني العالي للموسيقى في بيروت وعند السنة السابعة توقفت عن اكمال دراسة العود بعدما اتممت دراسة المواد النظرية المطلوبة حينها، وبعد مرور ما يزيد عن 15 سنة التحقت بالمعهد الانطوني للموسيقى وحصلت على شهادة الدبلوم في آلة العود بدرجة جيد جداً.
ويعقّب “عملت كمدرس لمادة التربية الموسيقية في العديد من المدارس والمعاهد والجمعيات ،شاركت في اعمال مسرحية كمشرف على الموسيقى وملحن للاغاني ،بالاضافة الى مقطوعات موسيقية من تأليفي قدمتها في مهرجانات محلية على مسارح لبنان وأيضاً في فرنسا.
حماسة البلاني وحبّه لعالم الموسيقى جعله ينزع إلى سبر غور آلاتها، خاصة الوترية منها، وهنا يقول “منذ سبع سنوات وأنا أصنع آلة العود والبزق وكنت قد صنعت آلة “السنطور”، وكان لي تجربة وحيدة في صناعة آلة “الرزق”… هذا وعملت كمدرّب ومعلّم لتعليم صناعة آلة العود و”القانون” مع احدى الجمعيات الاهلية وكنت فرحاً بسبب تخريج عدد جيد من الشباب والشابات وحتى الصغار خلال دورتين لفترة سنتين، وأمسى لدينا من يصنع العود منهم.
حالياً لدى عماد البلاني محترف أسماه ” أصيل ” لصناعة العود العربي في مدينة الشويفات قرب العاصمة اللبنانية بيروت.. حيث يواظب على تعليم العزف على العود “حباً وعشقاً لهذه الآلة الشاملة الرائعة”.
لماذا اخترت الآلات الوترية ؟
ونطرح السؤال حول اختياره للآلات الوترية فيجيب “لطالما احببت الصوت الصادر عن عملية العفق في الوتر .. فهو صوتٌ شبيه بدقات القلب ، وكانت تجربتي مع الآلات الوترية، والتي تعد اكثر صعوبة من الآلات الموسيقية الاخرى من حيث العزف والتعلم، تجربة جيدة، من خلال العزف والتعليم للالات الوترية المتوافرة ولا سيما العود والبزق والغيتار والكمان والقانون”.
أنواع الألات الموسيقية
وكما هو معروف فإن الآلات الموسيقية تقسم بالمجمل إلى إيقاعية ونفخية ووترية،
وييتبحّر البلاني في الكلام عن الأخيرة: “كما ذكرنا فإن الآلات الوترية هي أكثر الآلات الموسيقية صعوبة من حيث العزف، وكانت الاوتار سابقاً تصنع من أمعاء الحيوان، كما أن الريشة (المضرب) فكانت تصنع من ريش الطيور الكبيرة كالصقر والنسر.
ومن أقدم الالات الموسيقية الوترية الجنك والكنارة أو Lyre , Harp
التي تعود إلى أكثر من 3000 سنة ما قبل الميلاد، ثم هناك العود حيث برهنت الاكتشافات أن أصوله عربية وبداية من العراق منذ العصر الاكادي (٢٣٥٠_٢١٧٠) قبل الميلاد ، ومن هناك انطلق العود الى باقي العالم بعكس الرأي الذي يقول ان اساس العود اوروبا حيث كانت اوروبا غارقة في الظلام والجهل يومها، وصناعة العود كانت تتطلب درجة من المدنية والتحضر ومن العود كان هناك الات موسيقية مستوحاة منه مثل Lute المعروف في الغرب وهوشبيه للعود.
صناعة العود
نصل إلى الفقرة الأساسية تلك التي تهم الموسيقي المتحمّس دوماً للعطاء في مجاله الرحب وهي صناعة العود والالات الوترية الشرقية.
ويردف قائلاً “ولدت فكرة صناعة العود لدي منذ عدة سنوات، حيث أني لم أكن أحبذ أصوات الأعواد التي اقتنيتها، والتي لم تكن تعطيني إحساس العود الشرقي الأصيل
إذ لطالما طربت لصوت عود الموسيقار محمد القصبجي وعود الكبير فريد الأطرش وغيرهما من العمالقة الكبار في تراثنا المشرقي العربي الاصيل
لذلك قررت أن أصنع عودي بنفسي ،عود يشبه ما كنت أحب وأسمع وبدأت تجربتي بالدخول إلى المواقع الالكترونية والكتب التي منذ عام 2016، إلى أن أسسّت محترفي “أصيل” لصناعة العود المشرقي العربي.
محترف “أصيل” والعود التقليدي
ويوضح أن ” أصيل ” هو واحد من عدة محترفات وورشات لصناعة العود المنتشرة في لبنان ووطننا العربي، وهنا يختلف صوت العود باختلاف الصانع
وروحه التي يبثها في عملية الخلق تلك، وبرأيي فإن الكثير من صانعي الأعواد قد ابتعدو عن الشخصية الاساسية للعود وبدا كصوت “المندولين” أو العود الاوروبي بما يتلائم مع هذا الغزو الثقافي الذي نعانيه على كافة المستويات، إلاّ أنني كنت ومازلت مصراً على التمسك بصناعة العود التقليدي وهذا شيء أفتخر ،لا بل أفاخر به.
وطبعاً لا أدعي أنني وصلت ألى ما أريد في محاولاتي، ولكنني مستمر في التجارب والمحاولات علّني أصل إلى مكان مرضيّ، والحمد لله فقد وصلت الى بداية متقدمة لا بأس بها من تقريب صوت عودي الى صوت العود التقليدي وبنسبة مرضية بعد الشيء.
خاصية صناعة العود
صناعة العود صناعة راقية وجميلة وتتطلب الكثير من الجهد والتفكير والفن والذوق والتأمل والصمت والسمع المتواصل للموسيقى المشرقية التقليدية وأيضاً كلما كان الصانع على معرفة بيّنة بالعود كلما كانت الصعوبات أقل ومن الموجب أن يكون الصانع عازفاً، وكلما كان ماهراً كعازف كلما على معرفة بالصعوبات التي تواجهه . بالاضافة الى المعرفة بعمليات النجارة وطرق التعامل مع الأخشاب باختلاف أنواعها ، وتركيبها من حيث الكثافة والخاصيات الأخرى فمثلاً صدر العود أو وجه العود يجب أن يكون من الخشب قليل الكثافة كالصنوبريات مثل الشوح والشربين ، أما القصعة أي القسم المقعر من العود يجب أن يكون من الخشب الصلب نسلياً كالجوز والزان .
كذلك المعرفة بالقياسات والنسب التي يجب على الصانع أن يراعيها من بداية العمل.
صناعة العود للجميع!
من الأمور التي تجعل هذه الصناعة نادرة وصعبة أمر هام جداً وهو الصانع نفسه ذلك الصانع الذي لا يريد أن تصبح هذه الصناعة ملك الجميع بل أن تكون متوارثة ومحصورة بالعائلة والابناء فقط ولطالما عانينا وعانى من عانى حيث يمكن لصانع لديه الخبرة المديدة في الصناعة أن يوفر عمل سنين من التجارب والمحاولات لصانع جديد خوفاً منه إفشاء (سر المهنة) وهذا شيء غير صحي في تطور المعرفة وتأثيرها على الثقافة وتطور المجتمعات حيث أن هذه الحال تنسحب الى الكثير من المهن والاعمال وهنا نقول أننا على كل الاستعداد لتعليم هذه الصناعة بالقدر الذي نعرفه لا أقل ولا أكثر
وكذلك ما يحصل ايضاً مع آلة القانون محاولين بذلك الهجمة الكبيرة لتعلم الآلات الغربية كالبيانو والغيتار علماً بأنه لا مشكلة لدينا بذلك مادمنا نستطيع تعليم اولادنا لملئ أوقات فراغهم بالموسيقى بدل استهلاك طاقاتهم وهدر وقتهم بالاجهزة الذكية المنتشرة في المجتمعات بشكل مَرضي صارخ ، مما يسلخ الطفل عن عائلته بالدرجة الأولى وعن مجتمعه ثانية وبقاءه أسير حالة افتراضية لها تأثير سلبي كبير على فكره وسلوكه .
أخيراً ، وليس آخراً فالكلام يطول هنا في شرح ما سبق ، ولكنها دعوة مني الى كل الناس بالاسراع الى تعليم أطفالهم الموسيقى وخاصتنا العربية الأصيلة منها التي تكاد تنعدم في ظل هذا الهبوط في مستوى الغناء والتأليف الوسيقي الى درجة مخيبة للآمال وعلى كافة الصعد ، فلنحارب هذا الغزو الاستعماري المستجد وتلك المحاولات لمحو تراثنا وثقافتنا العربية التي لطالما أنارت ظلام قرون مرت في تاريخ الغرب ، ولنعالج روحنا المتعبة بموسيقانا التي لن يستطيع أي كان أن ينسينا مكانتها وقيمتها في اعادةالثقة في حضارتنا لتكون منارة تشع في كل بقاع الأرض .
رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=11066