مجلة النجوم – سيدني

بقلم الكاتبة الناقدة ليلى تباني  

رواية واسينية بنكهة لبنانية لمثقف مبدع قرأ بيروت بطريقة غير طقوسية، و عاشق أحبها بأسلوب الأوفياء . سبّاق دائم لنصرة الحق واستجلاء الحقائق بعد أن ألبسها ثوب الصدق والبيان ، واحد من أكبر روائيي و أدباء  العرب الأكثر كتابة والأوفر انتاجا  . في عصرنا ، لا يعنيه الوقت خارج دائرة الكتابة إلاّ وهو يصبّ في أنهرها ، يسارع لتدوين ما في ذهنه حتى يسبق الزمن المتسارع المخيف ، فيحيل مداد  يراعه ترانيم  تذهل القارئين ، و يجعل الكتابة ملاذا و منازلة بين الوقت والمجهول ، فينتصر لها في كل مرّة ويفتكّ من بين فكي هذا الأخير رواية ، وهو الذي افتكّ رائعة  ” شرفات بحر الشمال ” من زمن الدّماء في العشرية السوداء ، و “ليليات رمادة ” من خاصرة وباء الكوفيد ، وهاهو اليوم يتحفنا برائعة ” عازفة البيكادللي” لؤلؤة تشع من بين رماد الحرب الأهلية في لبنان . رواية صدرت عن دار الآداب اللبنانية في 376 صفحة . فحين يعشق الجزائري بيروت يكتبها كما لم يكتبْها قبله لبناني .

رواية التفاصيل غير المملّة و السّرد الباذخ بامتياز، هي رواية قدمت لنا عالما تفاعليا خصبا قائما على الوصف الدقيق للأشياء، للأشخاص  ، للفضاء، للفن والقيم ، و للمحيط الذي تتوالى فيه الأحداث وتؤول بالقارىء في النهاية إلى نصّ لا يقتصر على  التسلية فحسب ، بل تدفع به في قراءته إلى بذل  مجهود شبيه بالذي بذله الكاتب نفسه. لنكتشف إلى أي حدّ هي جميلة تلك الرواية بتفاصيلها التي تجعلنا كقرّاء ننتبه بطريقة ما الى ذلك العالم الذي يشبهنا حقيقة، أو حتى إلى تلك الأفعال والطقوس والعادات التي نمارسها يوميا دون أن نلقي لها بالا  ، وتجرّنا أحداثها إلى التساؤل الملحّ … هل هي رواية عاطفية؟ أم رواية فلسفية؟ أم رواية بوليسية؟ أو إظهار وكشف للجانب الخفي المسكوت عنه ، وإعادة إضاءته أم فضح لأساليب  أعداء الوطن  الإجرامية؟…..أم جدل إيروتيكي يتحاشاه الكتاب والروائيين …؟

رواية مثيرة هي ، تدور أحداثها حول لغز يجب إيضاحه  . إنها هذه الأمور كلها في وقت واحد   ، يلمّح أديبنا إلى الجديد في الرواية بإحداث نقلة فارقة في السرد الادبي الذي لم يكتف فيه بالحكي والوصف بل عزّزه بعناصر حقيقية منقحة بالخيال كاالاختفاء والغرابة والخوف، وهي نفسها عناصر نجدها في الرواية  البوليسية الفانتاشبكية. التي تقوم على عناصر التوتر والغموض والغرابةو المفاجأة . من هنا تبرز مكانتها و سحرها بما تثيره لدى القارئ من شوق وفضول…وأنا أقرؤها وأعيد فقراتها لأتفحّص ما بين السطور قلت في نفسي :  عندما تنشر هذه الرواية، ستنطلق ألسنة النقاد و أعداء بيروت على وجه الخصوص ، لسحب كل النسخ كي لا يراها المخلصون لهذا الوطن المستهدف .

الأمكنة رموز  تشكل ذاكرة الزمن التي لا تموت  .

بيروت…. قصر البيكادلّلي ….شارع الحمرا…مقهى الهورس شو   …..فندق اندلوسيا …..جورنال المحقق ….. تلمسان …جلجامش …عشتار …باريس ….بيروت ….السودان …مصر ….. أمكنة معنية بتشكيل الذاكرة و نوسنالجيا الاحداث ،  تمثل مخزونا عميقا في وجدان بطلة روايتنا ، فقد لا تكون شيئا لغيرها لكنها كل شيء بالنسبة لها تسكنها حد التّماهي، فتزيل الحدود  بين الحقيقي والمتخيّل لديها…لينا جوزيف عازفة البيانو الأولى على مسرح البيكادللي و إنها والبيكادللي لقرينان . الابنة المدلّلة للعازف المايسترو جوزيف ،  التي تجد نفسها ــ بعد حرق المسرح، ومقتل والدها برصاص قناص ــ بين فنادق بيروت تبحث عن عمل كعازفة في كافيهاتها ، اضطرتها الظروف إلى امتهان العزف لكسب المال . الامر الذي يحدث في نفسها خيبة وألما لا يدركه إلاّ من عايش فترة شبابها في كنف والدها و في رحاب البيكادللي أيام عزه و بهائه .

لينا امرأة ماتت وحيت فجأة بعد ثلاثين سنة  ، كانت قد تزوّجت زواجا نمطيا يخلو من الحب والشغف  من انطوان ضحية من ضحايا الاقتتال  ، فقد أخاه بفندق بوريفاج ، كان ذلك بعد  مغامرتها المجنونة مع المصور الأمازيغي  ماسي دابليو  الذي أحبته بالصدفة، قبل أن تنفصل عنه لتلتقي به ثانية بعد ثلاثين سنة، وبين قوسي الموت والحياة تنجب لينا بنتا هي ابنة ابيها انطوان تحبه ويدللها تشتغل في “جورنال المحقق” تغرم  ” إيمّا ” بمحسن أو كما تفضل أن تناديه ” إنكيدو”  بلغة الآشوريين التي ينتمي لأصولها ، ناضلت لينا بكل ما اوتيت من حيل لإعادة  فتح مسرح البيكادلّلي  بعد ما أحرق وأغلقت أبوابه  ، وحامت حوله أطماع أرباب المال لتحويله إلى محلات استهلاكية .

بيروت تحيا بالفن و إن أحرقوها 

استطاع الروائي واسيني لعرج من خلال روايته هاته   ــ وبما يملكه من مقدرة لغوية وأدوات وآليات وتجربة عاشها في بيروت وعايش بها مسرح البيكادللّي ــ  أن يؤسّس عملا فنيا تخييليا إبداعيا، فيه من الفنية والجمالية ، ما يضع القارئ تحت وطأة نص تشويقي مثير، لا يستطيع إلا أن يتتبع وقائعه، يلهث خلف الغموض محاولا استنتاج النهاية  ، يجعله يستحضر تلك المشاهد الفنية الرائعة التي تعاقبت على بيروت الفن والحضارة ، التّميز فيه هو التشابك بين التاريخي والفني والعصري ، تشابك وتقاطع وتكامل أدبي فني ينمّ عن ثقافة الكاتب الواسعة وأسلوبه الفلسفي العقلاني الذي يميز أديبنا المفكر الذي تشغله القضايا الانسانية الكبرى .

يؤمن أديبنا تماما أن الفن عماد الحضارة ، وهو الموريسكي سليل الحضارة الأمازيغي العاشق لفيروز  ..مسرح البيكاديللي والذين مروا الإخوة الرحباني وفيروز الذوق والرقي والابداع والبولشوي ودكتور زيفاجو ، عمر الشريف و عادل إمام ….طرب سلوى قطريب ملحم بركات ..والقائمة طويلة ..كلها أطياف تطارد وهم الرماد ، و تبعث بذكراها إلى أن يحيا البيكادللي مهما أحرقوه ، ببراعته المعتادة شكّل توليفة متناغمة من اللّغة و البشر، تنبىء عن القاموس اللّغوي الثّري للكاتب والذي ينمّ عن اشتغال مكثف باللغة ،  لا على مستواها الاستعاري فحسب بل على المستوى المفرداتي والذي أنتج غزارة لغوية تسمّي الأشياء بمسمياتها الدّقيقة، كل ذلك وفق أسلوب سلس واضح المعالم يتماشى وطبيعة النص البوليسي التاريخي الفني ، يأخذنا إلى أقاصي الغرب من تلمسان  رفقة  ” ماسي W” وهو يتوق لحضور حفل فيروز في العاصمة الجزائر ، ويبقى يلاحقها فيختصر المسافات من باريس إلى البيكادللي ليحضر فيروز وعزف المعلم جوزيف ، إلى أن يفاجأ بابنته لينا ، فترسخ كلها فيه ، ثم تختفي فجأة لكنّها تظل ساكنة مزهرة في ربوع قلبه  ، تقتات مما تلفظه طقوس حبّه ، فيخرج من حدود العقل والمعقول ، ليبقى في انتظارها ثلاثين سنة على أمل التلاقي ، وعزاؤه في الانتظار تقفّي أثر طيفها الناعم وعطرها  “الشانيل فايف 5 ” الأخاذ ، لتبقى لينا بدورها تنتظر صاحب الظل الطويل وهي لا تحتفظ منه إلا بصوته و بأدوار الفندق السبع التي قطعاها دون توقف ليلتحما إلى الأبد ، ليبقى شيئا من عبق الماضي عالقا بها رغم الزمن .. !! شيء تعجز يد النسيان أن تطاله…”

تلملم لينا ما تبعثر من همّتها ، وتشارك رفقة الجامعة الامريكية لاستعادة الحياة للبيكادللي ، وبالمقابل تسعى ابنتها ” إيمّا ” الصحفية لتقفّي أسرار جريمة حرقه و يختم أديبنا الرواية إلى فك شيفرة حرق المسرح بما صرحت به لينا عن زوجها انطوان وسعيه لحرق البيكادلّلي انتقاما لمقتل أخيه . يفتح القصر أبوابه بعد التنظيف والصيانة وتعتلي عازفة البيكادللي الركح فتستعيد لحظة لقائها الأول بماسي W على إيقاعات أغنية”l am singing in the rain”….لينتصر الفن للحياة ويعيد أمجاد بيروت ويضخّ الحياة في قلبها النابض شارع الحمرا ويفتح البيكادللي أبوابه من جديد …..و يؤكد أديبنا على حتمية أن ما يحقّقه الفن في إسعاد  الشعوب تعجز عنه كل القوى .

رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=17613