مجلة النجوم – سيدني.

بقلم الأديبة لونا قصير

تذكّرت اليوم عدة محطات في حياتي، في كلّ منها كنت فيها غريبة. أحاول أن أنخرط في عالم لا أنتمي إليه فالغربة موحشة. استطعت أن أبني لفترة قصيرة بعض الصداقات ، وانتقلت إلى مكان آخر، ليبقى إسمي ووجهي في جرار عتاق، تماماً كملف من الملفّات الكثيرة التي تختزنها ذاكرتي .

هي ظروف الحرب التي دفعتني للبحث عن مكان آخر، وهي ظروف العمل وبلد ينحدر إلى الهاوية .. هي، باختصار ظروف وطن جريح.

لم أترك وطني، هو من تخلّى عني، ورحت أتقصّى أخباره من مقالة هنا وخبر هناك . ومهما قالوا فأنا من لبنان ، وأفاخر بالانتماء إليه.

أراهم على الشاشات يتفوهون بعبارات وأفكار لا تعكس الصورة الحقيقيّة لوطني. الوجوه نفسها تنضح بالعصبية والحدّة والكراهية والتبعية!

يفلسفون الحريات.. يشوهون الوطن، فأطفئ التلفاز؛ إني أكره الوجوه الكالحة.

أعود أفتش عن عمل آخر. إن العودة لوطني ليست بالقريبة، بل طالت سنين وسنين ، وأخاف أن تكون باتت مستحيلة.

أعود وأرمّم ما بقي من ذكريات جميلة.

مرت سنون وأنا أنتظر… هم لم يملّوا. لم تزل الوجوه نفسها.. لكنّ وجه بلدي تغيَّر.

أين شواطئه الذهبية على مدِّ النظر؟ أتذكّر الآن يوم كان والدي يوصلنا، مع كلّ صباح، إلى “بلاج حكيم” ؛ كنت أمضي نهاري حاملة دلواً صغيراً، أحاول أن ألتقط “سلاطعين” اختبأت في وكرها. أتذكّرعندما كانت تعلو صرخات لاعبي الطرنيب، يتحدّون بعضهم ويضحكون. أتذكر “أبو وليد” وهو يمارس كلّ يوم رياضته في رفع الأثقال . أتذكر حتى الأمواج في نهار هبوب الريح، لكني لم أكن لأتصوّر أنّها ستحملني وترميني بعيدةً عنها.

سرق أمراء الحرب رمال شواطئنا الجميلة ، سرقوا حتى الذكريات ليبنوا باطوناً لا لون له ولا حياة ، يعجّ بأناس غرباء الوجه واللسان .

في كلّ خطوة تخطوها لم تكن لتستطيع إلاَّ أن تبتسم وتلقي التحية هنا وهناك. فالكل يعرف الكلّ ، والكلّ يسألك عن حالك ويطمئن.

العائلة كانت كبيرة. فهي لا تقتصر على أفرادها فقط، بل كانت تضم الأقرباء والجيران… كلهم عائلة واحدة وكلهم من مناطق مختلفة، لكن همومهم وأحزانهم وأفراحهم كلها واحدة.

اليوم.. ربما نلتقي عند مدخل العمارة ، ويقتصر لقاؤنا على صباح الخير… كلمتان قد تختفيان قريباً، ولولا إضطرارنا للدخول من نفس الباب أو نفس المصعد لما تفوهنا حتى بهذه العبارة!

من تغير هم أم نحن؟ وكلٌّ منَّا يتَّهم الآخر… إنهاالسياسة وقد شرذمت الجميع، وقطعت صلة المودة فيما بينهم .

كل يوم كنت أسلك نفس الطريق، من بيتنا في شارع الثقافة إلى شارع المطران مروراً بالقرب من كنيسة مار مارون. يلقون التحية، إنني أصبحت من أهل البيت. فالجميع يعرف بعضهم البعض. إنه طريق بيت جدتي إميلي. وجدي بالرغم من تقدمه في السن، وقد شحَّ قليلاً نظره، ينتظرني على نفس النافذة… إنه رودولف يبتسم لي من بعيد. إنني لا أنسى أبداً عينيه الزرقاوين ترقصان فرحاً عند قدومي.

الشوارع الضيقة مزدحمة، الكل مشغول بشراء الخضروات واللحم والفاكهة، والكل ينادي ويتباهى أنه الأفضل… حتى بائع الكعك، وكنا نناديه بائع الكعك فقط. إسم لا يتغير. يضع سلَّته على رأسه دون أن يمسكها ويعدّ القروش وينادي كعك كعك.

مررت من أمام بيت جدتي، لا يزال الستار هو نفسه، لكنه الآن مجرد بيت لا أدري من يسكن فيه: الستار مغلق، لا أحد ينتظرني على شباك قديم. تمنيت لو استطعت أن أدخل المنزل. إنني أحنّ إلى رائحة طبخ جدتي، ورائحة الحلوى، وإستقبالها لي. لكنني أعود وأدرك أن سنين مرت وأنا لم أعد تلك الطفلة.

أكملت طريقي. هي طريقي أنا أعرفها. حفظتني وحفظتها سنين، لكن لم تتعرف إليَّ هذه المرة. نستني، حتى الفرن السويسري، حيث كانت جدتي ترسلني لأشتري المناقيش بزعتر… إختفى. مكتبة حليم الحاج كانت الأهم في طرابلس حينذاك، لم تعد مكتبة… دخلت ورأيت إبنة وليد… تحدثنا قليلاً. قال لي يبدو أن القراءة لم تعد تستهوي أحداً، فإستبدلها بمحل للألعاب الإلكترونية. وجارتهم الأرمنية كانت أهم الخياطات في شارع المطران “جورجيت” أقفلت نوافذها، و”أم مرسيل”. “فدوى” التي فقدت إبنها في عز شبابه هجرت… كم بكينا يوم جاء خبر موته من أفريقيا… ذهب ليعمل هناك وبقي!

وأكمل طريقي حزينة لم أتعرف إلى أحد ولم يعرفني أحد. كل شيء تغيّر. أعود أدراجي وأمرّ من أمام ذلك الدكان الصغير… أبو فاروق. تفاجأت لرؤيته وقد ظهر التعب على وجهه. كبُر في العمر وأنا ظننت نفسي ما زلت تلك الطفلة التي لم تكبر بعد. لم يعتزل. ما زال يؤجر الدراجات ويصلّحها، ويبدو أنه علَّم المصلحة لإبنه. فهو يشبهه جداً. صرخت “أبو فاروق” نظر إليَّ وإبتسم. إنه يعرف هذه الطفلة الشقيّة. كنت مع أصحابي كل يوم أحد نستأجر دراجة لساعتين، لنجول في شوارع طرابلس الجميلة.

نتسكّع في جميع الشوارع قبل موعد الغداء، ولا نترك حياً إلاَّ ونعبر فيه فرحين ببعض الصبية وقد انضموا إلينا، ثم نرتاح جميعاً بقرب بركة كبيرة قريبة من الملعب البلدي كما كان اسمه ، نغطس أرجلنا ونرشق بعضنا بالمياه… الشوارع كلها ملكنا. خالية من السيارات. الجميع مشغول: البعض مع عائلاتهم إمّا  في البحر، أو في الجبل، أو في البيت، أو في المطعم،  لا يهم… إنه يوم الأحد.

فجأة أستفيق من طفولتي،  وينقطع حبل أفكاري، وأركض لسماع خبر عاجل على التلفاز. إنّهم نفسهم الذين كانوا وراء هجرتي، وهجرة من كانوا شباباً وشاخوا اليوم، وما زالوا يفتشون عن مستقبل أفضل، مكتفين بالعيش مع بعض ذكريات لن يدفنها الزمن.

يسيطر الحزن عليَّ وينتابني غضب منهم وعليهم فألعنهم. إن العودة بعيدة. إني آسفة لتحميل وطني عبء حزني وغضبي… فلماذا أحمله عبئاً لا ذنب له فيه… عبء أشخاص سرقوه وحطموه وهجروه. وأفكر… ليتني أستطيع أن أهدمه من جديد وأعيد بناءه كما كان… لكنني أدرك تماماً أنها ليست قصة أحجار وباطون… إنها قصة أن نتعلّم كيف نحب الأوطان.

رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=23189