مجلة النجوم – سيدني.
بقلم د. مصطفى الحلوه
بعد 12 عامًا من الإحتجاب عن الجمهور اللبناني، ها هو الفنّان عمرو دياب، يحطّ، في وسط بيروت، فيغدو هو الحديث والحدث اللذين حجبا كلّ ما عداهما من أخبار، حول الانهيارات، التي يشهدها لبنان، على جميع الصُعُد. هكذا كان زَحفٌ شبابيٌّ غيرُ مسبوق إلى ال Downtown، غلب عليه الجنس اللطيف. ومن المفارقات، التي تُثير السخرية والشفقة في آن، إمتثال الجمهور للتعليمات، التي وُجّهت إليه، فتزيّا اللباس الأبيض، من منطلق انتصار الأبيض على كل ما هو اسود قاتم! وقد كانت لهذه المشهدية أن تُو حي لأحد الفسابكة (واصف عدرة) بمقال، عنوانه : “بتحسُّن رايحين على عمرة-دياب!” (أي كالمُحرِمين والمُحرِمات المعتمرين والمعتمرات باللباس الأبيض في البيت الحرام!)
إستنادًا إلى الصفحة الإلكترونية لموقع Cairo 24.com : “تتراوح أسعار تذاكر حفل عمرو دياب ما بين 60 و300 دولار أميركي. وقد نفدت جميع التذاكر. وأشار منظّم الحفل إلى أنّ المسرح يتّسع لِ 16 ألف مشاهد”.وقد عُلِمَ أن أجر “الهضبة” قَدْرُهُ 750 ألف دولار، أي ما يُعادل 23 مليون جنيه مصري!
ووفق موقع لبنان 24، ثمة تعليمات/شروط مطلوبٌ إلتزامها: “مجبورين نلبس أبيض/ممنوع الصحافة تنتقد الحفل/ممنوع الصحافة تعمل مقابلات”. وقد تمّ تسكير بعض شوارع بيروت المؤدّية إلى مكان الإحتفال.
بعض الإعلاميين، لا سيما متعاطي الشأن الفني، رفضوا التوقيع على تعهُّد يعلنون فيه تقيّدهم بهذه الشروط، في حين بعض آخَرُ رضخوا ووقّعوا على التعهُّد! تعليقًا على هذه البدعة، كتب الصحافي الياس العطروني، مسؤول الصفحة الثقافية في جريدة اللواء: “كِتابُ التعهُّد، الذي اشترط على الصحافيين أن لا يكتبوا عن حفل عمرو دياب، يُشبه مراسَلة مسيو لودريان الاستجوابية لنواب لبنان”، ويُنهي العطروني، واضعًا بين هلالين(مواسم الاستصغار)، أي احتقار شأن اللبنانيين !
هذا الحدث الفنّي الضخم بدا حدثًا إشكاليًا، سال حوله حبرٌ كثير، على وسائل التواصل الاجتماعي، وكان له ما له، وعليه ما عليه! بعض الفسابكةيحبّذونه، من منطلق تكريس ثقافة الحياة، في حين نَبَذَه آخرون، بحجّة أنّه يُشكّل تحدّيًا سافرًا لمشاعر شرائح واسعة جدًّا، تعجز عن تأمين قوت يومها! بل إنّ ذلك يُوجرُ الصراع الطبقي ، وهو حال البشريّة، على مدى العصور!
لقد كان دخولٌ على خطّ هذا الحدث، من قِبل عدد كبير من المتفاعلين، نتوقف عند بعضهم:
* الشاعر بلال يحيى (الحكواتي)، كتب على صفحته (20 آب 2023) مطالعة، نورد قسمًا وافيًا منها: “لعمرو دياب ناسُهُ وعُشّاقُه ومهووسوه، فلا تكن أنت من حزبه، ولا من أنصاره. مارِسْ حقّك في العبادة والنصيحة، وساعدْ الفقراء والمعدمين (..) كن كما يريد الله أن نكون، لا شتّامين ولا لعّانين (..) لكلّ إنسان عقل وقلب وإرادة وقناعة، ولا يمكن لأحد أن يُجبر الناس على أن يكونوا كما هو يُريد!”
عبر هذا “الپوست”، يتخذ بلال يحيى موقفًا معتدلًا متوازنًا، على طريقة: “لكم دينكم وليَ دين”، أو بحسب القول الشعبي : “كل مين على دينو ألله يعينو”. فهو لا يدين الجمهور “العمرو-ديابي”، فكل إنسان حرّ بتصرّفه، “وللناس فيما يعشقون مذاهبُ!”، على حدّ قول المتنبي.
* السيد سامر دبليز، وضع “پوست”، بالخط العريض Bold : “أخبار في الإنهيار. المبلغ الذي تقاضاه عمرو دياب 750 ألف دولار، بالإضافة إلى 300 ألف من حفلة خاصة بالبيال، لزفاف نجل أبو كريم العرب”. (عمّ العريس العرب نفى نفيًا قاطعًا هذا الخبر).
* الفنان المشتغل يالتراث الشعبي، حكواتي المدينة، برّاق صبيح دان الحدث ومُحْييه، ناكشًا من الذاكرة بعض معطيات: “حفل عمرو دياب ما هو إلّا ماكياج سريع الذوبان، كمحاولة لإخفاء مصائب وعفن الواقع اللبناني برمّته. ترك وراءه أسىئلة كثيرة، حول راحة هذا البلد، وجنون شعبه وهبلهم المستطير”، وأضاف “في حفل قديم له عندنا في التسعينيات، قال حسني مبارك:بيقولوا بلبنان في حرب ومجاعة، ومن كم يوم عيِّل صغير (يعني عمرو دياب) عمل حفلة ورجع بنص مليون جنيه!”. وينهي الحكواتي صبيح “اليوم التاريخ يُعيد نفسه، بفارق أنّ الناس إستجابت لعمرو بلبس الأبيض، الذي طُلب منهم، كاعتراف صارخ بالخوزقة والاستهبال والانقياد التافه لرجُل حلقة الأذن والتاتو. وصحتين على قلب الفنان مليون دولار !”
في جردة للتعليقات، التي رصدنا حول مقالة السيد واصف عدرة، نقرأ: شي بيبكي والله/نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا: وما لزماننا عيبٌ سوانا (البيت للإمام الشافعي)/بتحسّ في ناس ما بتحسّ/ إنّو معقول يكون التفكير صار تافه بِ هالشكل؟/أحدهم وضع صورة لمئات من الدجاج الأبيض مأخوذة من مزرعة، وفي ذلك رسالة!/شو ما صار فينا قليل/يا حرام الله يشفي البشر/وين الغلا يللي عم يشتكوا منه والفقر والجوع؟/ما في مشكل متل الملائكة طالعين الله يبسط الجميع/التفاهة سادت في زمن الفساد/لبنان بلد عجيب غريب وشعب أخوت ع الآخر الخ..
* أحد الفسابكة (الأستاذ محمد عيّاد) قلبه على الدولة، أطلّ بهذا الپوست، بالخط العريض: “هلأ شو بدنا بالناس إللي لبسوا أبيض، وحضرو عمرو أفندي، إدٌيش طلع للدولة ضرايب؟”
…هذه هي الوقائع، بلغة القانون، تمهيدًا لإصدار الحُكم، الذي يجب أن يأخذ بعين النظر الظروف، التي يجري في ظلّها الحدث الفني، بكلّ تشعّباته. بمعنى ربط هذا الحدث بأوضاع لبنان المتردّية راهنًا، بل الواقف على شفا إنهيار، على جميع الصُعُد. ولقد تحصّل لنا، عبر المقالات التي تمثّلنا بها والتعليقات، أنّ ثمة إدانة صارخة لهذا الحفل الفني، الذي تمّت مقاربتُه، من خلفيّات وزوايا متعدّدة، جُلّها سلبي، ما عدا أصوات قليلة متسامحة أو غير مكترثة، لا يُعتدّ بها كثيرًا!
أمّا عن مقاربتنا للمسألة، فإنّنا منحازون إلى ثقافة الحياة وثقافة الانفتاح، التي غدت هويّة لهذا البلد، نابذين ثقافة الموت والتقوقع، التي يُروّج لها الظلاميّون، ويجهدون في تحويل لبنان إلى أرض يباب، لا يُسمع فيها إلّا نعيق الغربان! من هنا، فإنّنا، من حيث المبدأ، لا يُمكننا أن ندين هذا الحفل بالمُطلق، بمعزل عن تفاهة جمهوره وعن تفاهة “الهضبة” أو من عدمها! فهذه قضية نسبيّة، فما قد يشعر به أحدهم من أمر عظيمًا، قد يراه آخَرُ وضيعًا! وترجمةً للمسألة، فإن الجمهور الزاحف إلى الحفل، يرى فيه متنفّسًا نفسيًّا، ويرى إلى “الهضبة” مثلًا فنيًّا له أعلى! وهذه الشريحة مقتدرة ماليًّا، وهي خليطٌ من لبنانيين مقيمين، ومن مغتربين، أتوا إلى لبنان للاستجمام وزيارة أهليهم، كما من عرب ، جاءوا خصّيصًا لحضور هذا الحفل. وقد ظهّرَت هذه “الخلطة” وسائل إعلامية، واكبت الحدث. ومن منطلق حرية كل إنسان في أن يفعل ما يشاء، ضمن الضوابط القانونية وبما لا يمسّ حرية الآخرين، لا يمكننا منع هذه الشريحة وسواها من ممارسة حقوقها، التي يكفلها الدستور اللبناني، والقوانين مرعيّة الإجراء.
من زاوية أخرى، ومن منطلق أخلاقي، لا نستطيع تبنّي هذا الحدث والترويج له، في مرحلة يُكابد فيها اللبنانيون أزمة معيشيّة، لم يشهدوا مثيلًا لها في تاريخهم. وقد باتت غالبيّتهم العظمى تحت خطوط الفقر (ليس ثمة خط فقر واحد، بل ثمة خط فقر تارسو، وساكندو، وپريمو!)، في حين أنّ هناك، بحسب “الدوليّة للمعلومات” 20 بالمائة من اللبنانيين لم يتأثروا بالأزمة، وهم يعيشون في بحبوحة، وأحسن من ذي قبل!
تعليلًا للنظرة الأخلاقية، التي انطلقنا منها، في نبذنا هذا الحفل، فلكونِه يُشكّل استفزازًا لمشاعر الفئات الفقيرة أساسًا وللفئات المُفقَرة حديثًا (الطبقة الوسطى، بكل مراتبها)، التي تحوّلت، بفعل الأزمة المتصاعدة، إلى كائنات بيولوجية!
إنّ هذا الحفل، ومختلف الفعاليات المشابهة، “توقظ” هذه الفئات على فقرها وقهرها وتعتيرها، وترفع من منسوب حقدها على الفئة، التي تعيش خارج مناخ الأزمة الخانق! بل من شأن هذا الحقد المتنامي تغذية الصراع الطبقي بين فئات المجتمع الواحد: صيف وشتاء تحت سقف واحد!
كيفما قلّبنا المسألة كي نطلع برأي حاسم، نجدُنا عاجزين عن ذلك، فنعود إلى المربّع الأوّل، حيث انعدام وجود الدولة الحقّة، دولة الرعاية والرفاه، التي ترعى شؤون مواطنيها، وتحقّق رفاه عيشهم، وتُشعرهم، بالبعد البشري في كينونتهم!
في ظلّ انهيار الدولة، الذي نعيش فصوله المتعاقبة، يتذرّر المجتمع، وتتخندق الناس قبالة بعضها البعض، وتختلّ الموازين، ولا يعود للمنطق مطرح!
نختمُ، مشدّدين، لسنا مع ثقافة الموت، التي يريدونها لنا هويّة، بمعزل عن هذا الحفل، الذي هو تفصيل صغير من تفاصيل حياة قهرنا اليومي، وأمثاله كثيرة كثيرة!
العودةَ..العودةَ إلى المربّع الأول، إلى جذر المسألة، فتكون إدانة صارخة لمنظومة الفساد والإفساد، التي أفقرت معظم اللبنانيين، وجوّعتهم وجعلتهم “يشتهون العضّة بالرغيف”!
في ظل دولة الحق والمؤسسات، والرعاية، لن تكون هناك نقاشات، ولا “فشّات خلق”، بإزاء عمرو دياب وأضرابه، فهو حلقة صغيرة، في سلسلة همومنا، التي تزداد طولًا، يومًا إثرَ يوم!
رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=22428