أمان السيد

«أشعر بإرهاق شديد، عبء كبير على كاهلي، مشاعري مختلطة في ظل الإجراءات الحالية».

هو ما ورد على لسان الطبيب السعودي» ناصر إبراهيم» في إصراره على البقاء في إيطاليا ليساهم في خدمة المصابين بالوباء الحالي» كوفيد 19» في مشفى» لودي» الذي خصص لذلك، والحديث يأتي اعترافا من الطبيب بالجميل لإيطاليا، حيث درس، وأقام، رغم أن الفرصة كانت مواتية له لينأى بنفسه في فندق خاص، كما أن العودة إلى رحاب الوطن كانت متاحة أيضا.

«فيديل كاسترو» الزعيم الكوبي يقول « أطباء لا قنابل، أطباء لا أسلحة ذكية ترمى على المدن، وتقتل البشر».

طبيبية مصرية تهاجَم، وتُطرد، فتغيّر مكان إقامتها هربا من ملاحقة العوام الذين يخلطون بين المطبّب، والمُصيب بالعدوى، ولو أن الفرصة قد سنحت لهم لحشروهما معا، وأوقدوا فيهما النيران.

الطبيب الصيني» لي وينليانغ» حين قرع ناقوس الخطر من نافذة هاتفه الصغير ليحذّر من هذا الوباء، هوجم من السلطة الحاكمة بأنه يسوّق لتدمير اقتصاد الوطن، رجل حاول ألا يفتح الأبواب لوباء سيهتك حجب العالم، يُتّهم بالافتراء والتضليل، إلى أن يغمر الموت والمرض ساحات الكون تفسيخا.

د. «منذر خليل» مدير الصحة في «إدلب» السورية يقول: لا يمكن لطبيب في العالم أن يفصل الإنسان في داخله عن المهنة التي يمارسها، عبر صراع ذاتي دائم الحضور يؤرقه، وينهشه إلى أن يتغلب نداء الواجب على أي نداء سواه.

طبيب سوري آخر كان يعالج المصابين في أحد المشافي في سورية، وعندما يعود إلى بيته يرى أن طائرات الإجرام قد حصدت عائلته، زوجته، وأولاده السبعة، وأخاها، يساعد في دفنهم ثم يعود إلى ممارسة مهنته، وكأن قلبه قد صُبّ فيه الفولاذ.

« لا مكان أمام الخوف، فوقتُ العالم من دم» عبارة يقولها البروفسور الطبيب «خير الدين آك دينيز» رئيس قسم الأمراض المعدية في كلية الطب في إحدى جامعات تركيا.

وجوه كثيرة تبرز اليوم ساطعة في ظل هذه الجائحة الكبيرة، تدفع إلى الغوص في تلك البؤرة الداخلية التي يمكننا أن نلقبها بالنفس، النفس التي تتنازعها المشاعر، والعوالم المتناقضة ما بين رفض وقبول، ما بين تمرّد، ورضوخ، وما بين أثرة، وإيثار، وتُوقّد التّساؤل: كيف يتحرك الإنسان فينا، وما الذي يحرّكه، وما الذي يهمّشه، وما الذي يئده في مكمنه؟

ما الذي يجعل بعض البشر متقاعسين بأنفسهم حين تتطلبهم الملمات، وما الذي يستثير أمثال هؤلاء الأطباء والممرضين، والمسعفين، والمتطوعين إلى اختراق المخاطر وقد كمّموا قلوبهم بدروع لا ثقوب فيها. هناك من يدّعي أنّه الواجب، وغيره إنه قسم « أبقراط»، وقد يفسره البعض بشعور إنساني محض يخصّ صاحبه، ويميزه عمن ينسب إليهم، شعور يستحثّ صاحبه أن يكون في الرّتل الأول من خط المواجهة، لكن الموضوع أكبر بكثير، فهو ذاته يدفع إلى الحيرة، والتحيّر أمام نماذج أخرى لأطباء عرفوا بالجزّارين وبالمرتزقة، أطباء استغلوا الظروف، ومالوا مع الركب حيث مال، فتحوّلت مباضع الشفاء في أكفّهم إلى مباضع لجزّ رقاب معتقلين أبرياء في السجون، وإبر الدواء إلى حقن في أجساد المظلومين حين ساندوا الظلم، ورعاته، وكم من أطباء ركبوا موجة الرّبح والغنيمة، فعموا عما أقسموا عليه، وتغاضوا عن نداء الواجب، وكم من أطباء غُيّبوا في ظلمات السجون والتّشرد، وكم منهم من لم يُعط فرصته لسبب أو لآخر فاضطرّ إلى الانحراف، أما منهم  من كان الوعي رديفه فقد استطاع حين انخرط في مساعدة الحكومات في درء البلاء أن يأخذ فرصته ويثبت نفسه في دول لجأ إليها، ولم تلتفت إليه لسبب أو لآخر. إنّ المحن كما يقال هي التي تسنّ السيوف، والخناجر، وهي التي تكشف الأقنعة، وهذا ما يجري الآن في ظل هذا الوباء الذي سيطر على العالم الإنساني برمّته معطّلا عجلة الحياة بمختلف فروعها.

  تطالعنا في هذه الفترة صور، ومشاهد مختلفة، وأخبار عمّن ينذرون أنفسهم في سبيل تطبيب الآخرين، منهم من نراه في الإعلام، ومنهم من لم نسمع بما يجود به من نبل التضحية والعطاء. إنّ تتبّع فيديو يكشف لمُشاهده كم يجهد المسعف وهو يتهيّأ في معركة يتحصّن فيها استعدادا لمدارة المريض في آلامه، وهي وحدها الكافية بأن تشعره بمعاناة أولئك الذين يرتدون اللباس الأبيض، رجال البياض لو صحّت تسميتهم، وحمامات البياض لو صحّ إطلاقها عليهن، فلباس العمل أطواق وأطواق، وخلعه مشقّة، وتجريح، أما آثار الكمامات الواقية على الوجه فهي أشبه بلسع النار، وكأن الأطباء والممرضين قد خرجوا من حفلة شواء، شواء للمشاعر، شواء لأيام طوال لا يطعمون فيها مأكلا، إلا النذر اليسير، أما الشراب، فكثيرا ما يمتنعون عنه كي لا يضطروا إلى التّبول، ناهيك عن حفّاضات المسنّين التي صار منهم من يتحصّن بها لتحول بينه وبين اضطراره إلى الذهاب إلى الحمّامات مع ضيق الوقت، وتضاعف أعداد المصابين، وتلك الأكداس من الملابس التي لبسوها. هل من مقارن ذلك بنا، نحن الذين نجلس في بيوتنا وراء شاشات لاب توباتنا، وهواتفنا، نطعم، ونشرب، نكركر ضحكاتنا في أحضان أحبتنا، ولا نفتأ نردّد الشكوى تلو الأخرى، والتذمر من الحجز، والمنع تلو الآخر، وقتٌ فيه يغدو حضن العائلة، وإبداء قليل من التذمّر والشكوى لأولئك حلما، ووهما، جنود البياض الذين يُحارَب بعضهم من قبل أطراف مُنتظرٍ منها الاعتراف بالفضل، والتقدير، لكن الجهل الذي عرك عقول أولئك بالحمق قد أعمى بصيرتهم، فكم من مطبّب، وممرّض يحارب في مسكنه، ويحاصر من أبناء حيه، وبلدته الذين يخلطون ما بين من يعتني بهم ومن من الممكن أن ينقل إليهم الوباء، خلط مريع يفاقم معاناة أولئك الذين قد جنّدوا راحتهم، ومسرّاتهم لخدمة الآخرين، مما يُلجئ بعضهم إلى تغيير مقرّ إقامته فرارا من ذاك الاتّهام، وقد قرأنا عما حصل لهم في مصر، وعن نماذج أخرى في أستراليا، مما يعرّي تخوّفا يقوده الجهل، فيوازي بين العوالم في تخلّفها، وتحضّرها، لتبقى الإنسانية وحدها سلطان الموقف حين يمكث أولئك الخدّام على قيمهم  فلا يتراجعون أمام ما يؤذيهم، وإن بدرت منهم ردود أفعال، فهي لا تُقاس مطلقا بما يلحق بهم من ضرّ.

الحق يقال، إنّ الكتابة شكرا، وتقديرا لشموع الإنسانية تلك لهي من أصعب أنواع الكتابة، فلا الثّناء يفيهم حقوقهم، ولا خَفضُ القبّعات والهامات عرفانا بالجميل بكافٍ أمام تضحياتهم للبشرية في ظلّ هذا الظرف العسير، ولعل مقولة « كاسترو»: أطباء لا قنابل، أطباء لا أسلحة ذكية ترمى على المدن، وتقتل البشر» كفيلة بتأكيد البون الشّاسع ما بين أنبياء ورسل، وما بين قتلة وصنّاع تدمير.