#مجلة_النجوم_سيدني
بقلم الكاتب والشاعر اللبناني – نعيم شقير
ثلاثة أسابيع طويلة لم تحصل العجوز خلالها على كيس الفاكهة…
تأخر نجلها ثلاثة أسابيع عن الزيارة…
لا تستطع السؤال ولا تجد جوابًا يشفي غليلها…
العجوز آخذة في النحول، غارقة في الصمت…
لم تتأقلم مع النزيلات، لم تشترك مع جارات السرير في الحكايا والأقاويل ولعب الورق والبرجيس…
فالرؤوس البيضاء كثيرة، تحمل أعوامًا ثقيلة وأوضاعًا صعبة… ومع ذلك تتغلب على أحزانها ووحدتها بلعب الورق والتبصير والابتعاد عن الذكريات لأنها موجعة…
تخرج في نزهات مع أولادها…
حتى أن بعضهم يذهبون إلى زيارة أولادهم في بيوتهم ويعودون في اليوم نفسه…
كمْ من عجوز ذهبت إلى منزل أولادها وعادت باكية…
كمْ تمنت لو تبقى هناك في سريرها بين أولادها وأحفادها…
كمْ تمنت لو تبقى هناك بعيدة عن البرامج واليوميات والمواقيت والمواعيد…
كمْ تمنت لو تبقى هناك بعيدة عن ساعة النوم وساعة الموت المؤقت وزر الكهرباء وجرس الإنذار…
وكانت تمنياتهم تذهب سدى في صمت وصبر…
يعودون إلى دار المسنين وشفاهم مفتوحة على شكل سؤال، وأصابعهم مفتوحة على شكل اعتراض، وعيونهم مفتوحة على شكل انكسار…
لكن الضيفة الجديدة، التي لم تبلغ شهرها الأول بعد، ظلت غارقة في وحدتها وصمتها…
حاولت زميلاتها التودد إليها فلم يحصلن منها على وعد واتفاق…
قالت كبيرة الغرفة التي تضم عشرون سريرًا وقامات نحيلة كلنا مررنا في هذه اللحظات…
كانت البدايات ثقيلة لكن الوقت كان يتكفل بتذليل الصعاب…
لن نقول لك هنا أفضل من بيت الأولاد، ولكن هنا نحصل على الخدمة والطعام والدواء والاهتمام والرعاية، وهنا لا نترك وحدنا كما كان يحدث في بيوت أولادنا…
كمْ من مسنة تركت ساعات طويلة في سريرها البارد عند ابنها…
كمْ من مسن أهمله الأبناء والأحفاد وتركوه في غفلة عن الاهتمام…
هنا الخدمة متوفرة على الدوام…
صحيح أننا نقاسي من النظام المرصوص، لكن منازل الأولاد أيضا محكومة بأنظمة وقوانين…
زوجة الابن “الكنة” أشد ظلمًا من المشرفة حين تفرض نظامها المرصوص وعقابها الصارم في المنزل على صاحب أو صاحبة الرأس الأبيض…
حين تقدم الطعام في أوقات محددة بعيدًا عن الجوع والشهية والسؤال…
وحين تحجم عن تنظيف الغرفة لأيام وأسابيع رغم وجود خادمة تمنعها من دخول غرفة المسن…
وحين تجبر الابن على تنظيف الغرفة وتهوئتها إذا لم يكن عندها خادمة…
أيهما أصعب يا فلانة البيت أم دار المسنين؟
صحيح أننا لا نحصل هنا على ابتسامة لكن الصحيح أيضا أننا لا نحصل على تكشيرة…
نحصل على واقع إذ يتذمر المحيطون بنا ويتأففون من خدمتنا وهذا حقهم… فهذه المهمات هي من شأن أولادنا الذين رمونا هنا…
أولادنا الذين دفعوا الرشاوي حتى نكون في عداد العجائز…
هم الذين دبروا وساطات حتى انتهى بنا الأمر هنا…
يدفعون للغرباء ثمن ابتسامة باردة أو ثمن اهتمام مفتعل…
يرجون الموظفين والموظفات الاهتمام بنا ليس بدافع حبهم بل بدافع خجلهم…
يخجلون من ضمائرهم، من كلام الناس، من نظرات الآخرين…
هم مرتاحون لأن الزيارات ممنوعة إلا للأصول، أي ممنوع على غير الأبناء والأحفاد والأشقاء الزيارة…
غير مسموح للصديقات والجارات والأقارب…
لماذا؟
لأن الأبناء طلبوا ذلك في شروط العقد…
طلبوا وأصروا على هذا البند مهما كلف الأمر، لانت زيارة الآخرين سوف تفضحهم وتجعلهم عرضة ل “القيل والقال”…
من هنا يظل صمتهم حكايتنا وجوهم علامات انهيارنا ومكسر عزنا واحترامنا وافتخارنا…
* * *
في صبيحة يوم مشمس جاءت المشرفة لتقول للعجوز جاءك ضيف…
انتفضت العجوز حين لم تشاهد كيس الفاكهة…
سألت من هو الضيف؟
قالت المشرفة هل تريدين أن اوضب ثيابك وتسريحتك قبل دخول الضيف؟
قالت من جاء لزيارتي؟
وأطلت السيدة الغارقة في صمت الموقف والسؤال…
لم تكن غريبة عنها، كانت كنتها…
وصلت وانحنت تقبل يدها ودمعت فوق راحتها…
صرخت العجوز ماذا حدث لابني؟
أجابتها زوجته ابنك أصيب بالشلل جراء حادث سير في ليلة شتاء قاسية…
وهو يطلب الانتقال إلى دار العجزة المعاقين، وأنا أقبل يديه أن يبقى في المنزل…
وأضافت بحسرة وندم أنا على استعداد لخدمتكما سويا… سامحيني هذا ذنبك الذي اقترفناه…
أرجوك يا غالية، وحدك من يقنعه، تعاليا معي لنزوره، لنقنعه بضرورة البقاء في المنزل…
غرقت العجوز بالدمع والكنة بالبكاء…
فاض الدمع في المكان… والحسرة تأكل الأطراف…
قالت العجوز أنا أخدم وحيدي… اخدمه بعيوني، بما تبقى لي من عافية…
أرعاه بكل ما تبقى لي من قوة…
خرجت العجوز مع السيدة بعد توقيع عدة أوراق…
دخلت الاثنتان إلى المنزل، حيث الشاب مسجى على سرير الشلل والندامة…
**
يتبع
رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=15199