دينا سليم حنحن – بريزبن
نهر الأردن، المغطس من مدينة الناصرة، فلسطين الداخل
ولأنه مغلق علينا في القارة الجنوبية، ولأننا نتردد حول تلقي اللقاح، نبقى نتقوقع في أماكننا، لكن عندما تضج الذاكرة وتنفجر، لا يمكننا إلا أن نذهب إلى الماضي، نبدأ بالنبش عن الأماكن التي زرناها سابقا، قبل تفشي وباء كورونا المتجدد.
سوف نزور المغطس، نهر الأردن، حيث واقعة العماد التاريخية، كان المسيح آنذاك في الثلاثين من عمره، ويكبره يوحنا المعمدان (النبي يحيى) بشهر فقط، لكن الأخير تنبأ بظهوره، ومهّد له، وآمن به، وقام بالتعميد في نهر الأردن.
للأسف أصبح النهر اليوم مشابها الوادي، شحيح المياه ومحاصرا بين ثلاثة حدود، وهو أحد الأنهار المشتركة في منطقة الشرق الأوسط، ويتكون من التقاء ثلاثة روافد، نهر بانياس سوريا، نهر دان شمال فلسطين، والحاصباني لبنان.
بدأ المشوار من مدينة الناصرة، مدينة البشارة التي فيها نشأ المسيح وأمضى طفولته، وهي تعد أكبر مدينة عربية في فلسطين الداخل وأهمها، وتقع على جبال الجليل.
انخفضنا في منعطفات حادة، فظهر مرج ابن عامر الخلاب، مرج تكثر فيه التلال، والينابيع الصافية، يبلغ طوله 40 كم، وعرضه في المتوسط 19 كم، ومساحته الكليَّة 351 كم.
وصلنا بعد نصف ساعة إلى مدينة العفولة المزدهرة ببنيانها، وتقع في قلب المرج، تأسست سنة 1925 بعد أن تمّ بيعها من قبل عائلة سرسق اللبنانية، كانت بمثابة أرض زراعية عمل فيها العمال وكان اسمها (الفولة). ومعنى كلمة العفولة في العبرية: (عَافوا: هاجروا، طاروا، ذهبوا. لَه: لها.
مضينا إلى بيت شأن، بيسان، الطريق مستوية وسريعة، وزرعت الحنطة على امتداد النظر، بعد ربع ساعة، لاحت من بعيد برك استزراع الأسماك وتربية الأحياء المائية، اعتمدتها الدولة اليهودية لزيادة الإنتاج، تتمتع المنطقة بجو مناخ ودافىء، امتدت السهول الخصبة على جانبي الطريق التي تؤدي إلى منطقة الأغوار، حيث نقطة العبور، معبر الشيخ حسين، ويقع ما بين الدولتين، اليهودية والأردنية، وأقيم بعد توقيع معاهدة السلام سنة 1994، أزيلت الألغام ومسدت طريق معبدة وواسعة نحو المملكة.
في نقطة العبور الإسرائيلية، وفي ذكرى الغطاس، تدفق مئات السياح في طوابير، وقفوا خلف النوافذ حيث جلس موظفو الحدود للحصول على تأشيرات دخول، ثمن الخروج ما يعادل 31 دولار أمريكي، الانتقال في حافلات خاصة عبورا إلى الطرف الآخر من النهر، حيث نقطة عبور الأردن، ويوجد من انتقل بواسطة سيارته الخاصة بعد تبديل رقمها.
من يقرأ هذه السطور يخيل له أن النهر عظيم، وأن الجسر الذي عبرناه ضخم، لكن الحقيقة منافية جدا، لم تتعدَ مسافة العبور عشرة أمتار، تفاجأ الجميع من تقلّص حجم النهر الذي اختفى بين الأعشاب الضارة، التقطوا بعض الصور على عجالة، وأبدوا دهشة ظاهرة.
أصبحنا في الطرف الأردني، وتمّ توقيع الجوازات مجددا، وحصلنا على تصريح للدخول وسط ترحيب كبير من الموظفين، وتمت المعاملة بسلاسة، عندما خرجنا من بناية الجمارك تهافت الحمالون، يحاولون الارتزاق من حمل الحقائب، مرحبين وفرحين بالسياح.
خرجنا من نقطة العبور في سيارات أجرة، منا من استأجر سيارة، وهناك من خرج من المعبر في حافلات منظمة خرجت من الناصرة مباشرة، أخذنا الطريق نحو المغطس، مرورا بغور الأردن، وهو سهل خصيب تبلغ مساحته 400 كم، ويصل إلى البحر الميت، تتقاسمه الدولتان، اليهودية والأردنية، ينخفض الغور عن مستوى البحر من 200 – 400، وصولا حتى المغطس، تسمى تاريخيا، بيت عينيا، فيها كان يوحنا يبشر ويعمّد في جدول قصير، يسمى وادي الخرار، ويتدفق إلى نهر الأردن، صادفنا في الطريق كهوف الرهبان، وبقايا الأديرة والكنائس.
من الملفت للنظر أن فئات كثيرة من المسيحيين الذين يدعون (بورن أغين) قاموا بعملية العماد مجددا، وذلك حسب معتقدهم، وهناك من وفى الندر وقام بعمادة الأطفال، وبحسب الطقوس المسيحية فإن الطفل يعمّد مرة واحدة في حياته.
يعتبر المكان حجا مسيحيا، وشهد أربع زيارات بابوية، وتم تصنيف الموقع كموقع للتراث العالمي سنة 2015 من قبل اليونسكو.