#مجلة_النجوم_سيدني
كلّنا نعشق الفن والأدب، ونغبط الفنانين والأدباء العظام الذين طبقت شهرتهم الآفاق على مواهبهم النادرة. من منّا لا يتمنّى موهبة دافنشي أو بيكاسو في الرسم؟ أو موهبة باخ وبيتهوفن في التأليف الموسيقي؟ أو موهبة تولستوي وكونديرا في السرد الروائي؟ ولكن مع اجتياح الذكاء الاصطناعي العالم، وغزوه كل مجالات الحياة الصحية والطبية والتعليمية والفنية، بدأ القلق يخالج العديد من الفنانين والأدباء والمهتمّين بالحقل الثقافي، في ظلّ التطورات الكبيرة التي تحدث في مجال الثورة الرقمية، خاصّةً أنّ البعض يتوقّع أن “يُنهي” الذكاء الاصطناعي المستقبل المهني لهؤلاء المبدعين.
يقول الفيلسوف جيل دولوز إنّ الفن هو لغة الأحاسيس، سواء أثَّر فينا من خلال الكلمات، الأصوات، الألوان، أو حتى الحجارة.
أما الرسام الفرنسي بول سيزان، فيعتبر أنّ العمل الفني الذي لم ينطلق من عاطفة جيّاشة ليس جديراً بأن يُصنّف عملاً إبداعياً. فعندما نتحدّث عن الفنّ نتوقع أن يثير العمل الفني انفعالاً ما فينا، وإحساساً عالياً بالجمال، أو مشاعر مختلطة من الفرح والحزن والحماس، لأنّ المبدع يبعث من خلال فنّه رسالةً سيدركها الشخص المتلقّي ويستجيب لها.
لكنّ دخول الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة المجال الفني والأدبي، واستخدامه في السينما، وفي تأليف الموسيقى والصحافة والرسم، أشعل جدلاً محتدماً على الساحة الفنيّة.
فهل سينافس الذكاء الاصطناعي الفنانين والكُتّاب؟ وهل الأعمال التي يخلقها الذكاء الآلي قادرة على منحنا الإحساس بعواطف مماثلة للأعمال العظيمة التي طبعت تاريخ الفن؟ هل ستكون هناك شعرية للفن الجديد على نسق شعرية غاستون باشلار؟
بالنسبة للأدب، ربما لم يعد الوقت بعيداً قبل أن نسمع بأنّ أحد الروبوتات فاز بجائزة “غونكور” أو “نوبل”! وحالياً يتم بالفعل استخدام البرمجيات الذكية لمحاكاة إنتاجات الأدب الإنساني، من خلال تحليل أشهر الروايات وتخزينها واسترجاعها آلياً.
وقد وصلت في العام 2016 رواية مكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي، الذي تمّت برمجته من قبل باحثين في جامعة “هاكوداته” اليابانية، إلى المرحلة النهائية في أهم مسابقة أدبية في اليابان. كما صدر في العام 2018 كتاب بعنوان “الطريق” (The road)، مكتوب بالكامل بواسطة خوارزمية قائمة على الذكاء الاصطناعي.
يتولّى الذكاء الاصطناعي أيضاً كتابة العديد من المقالات في الصحف الغربية، خاصّةً تقارير المباريات الرياضية ونتائج الانتخابات. وقد سبق أن قدّمت صحيفة “واشنطن بوست”، في السنوات الأخيرة، مئات المقالات حول الرياضة والمواضيع السياسية، أنجزها مراسل روبوت يدعى “هيليوغراف”.
بَيْدَ أنّ النتاج الأدبي والصحفي ما زال يُعتبر ركيكاً وباهتاً بالمقارنة مع الأعمال العظيمة. وتفتقر هذه الإصدارات إلى روح الفكاهة والنكتة التي يتحلّى بها بعض الكُتّاب، لكنَّ الباحثون يعكفون على تطوير هذه البرمجيات كي تحاكي الدماغ البشري.
أما في عالم الموسيقى، فقد استطاع الذكاء الاصطناعي استكمال سيمفونية بتهوفن العاشرة، التي توفي الموسيقار الألماني قبل أن ينهيها. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2021، قدّم قائد “أوركسترا بتهوفن”، ديرك كفتان، عرضاً للسمفونية العاشرة في مدينة بون الألمانية، وذلك بعد أكثر من قرنين من الزمن على وفاة الموسيقار الشهير، ونالت المقطوعة إعجاب الجمهور بشدّة.
أما بالنسبة لفن الرسم، فقد ثار لغط كبير مؤخراً حول علاقة الذكاء الاصطناعي بهذا الفن، وتحديداً بعد أن فازت إحدى لوحات الفنان الأميركي جيسون ألين، التي حملت عنوان “مسرح أوبرا الفضاء”، بالجائزة الأولى في “مسابقة كولورادو للفنون” في الولايات المتحدة، نهاية شهر آب/أغسطس من العام 2022.
وقد أثار هذا الفوز غضب واستهجان المشاركين الذين اعتبروه بمثابة غش، واتهموا زميلهم بأنّه قدَّم عملاً خالياً من أي رسالة. وقد اعترف الفنان جيسون ألين بأنّه استخدم الذكاء الاصطناعي لإبداع هذه اللوحة، معتمداً على برنامج “ميد جورني” (Mid journey)، وهي خوارزمية تسمح بإنشاء صورة من خلال إدخال مجموعة من الكلمات، ثم يقوم البرنامج بتحويلها في خلال ثوانٍ قليلةٍ إلى لوحة فنية، مقلِّداً أسلوب أشهر الرسامين.
وهكذا فتح هذا الفنان “صندوق باندورا”، مبيناً للجميع أنّ الذكاء الآلي قادر على ابتكار لوحات تستطيع أن تفوز بجوائز مرموقة، وأن تُعرض في المتاحف على غرار لوحات أشهر الفنانين.
كما بيعت لوحة بورتريه للفنان إدموند دي بيلامي (Edmond de Belamy) بمئات آلاف الدولارات، في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2018، في مزاد نظّمته “دار كريستيز” الشهيرة. وتصدّرت هذه اللوحة على الفور العناوين الرئيسية في الصحف، بصفتها أول عمل فني تمّ إنتاجه بواسطة الذكاء الاصطناعي يُباع في مزاد.
وتعود فكرة بورتريه إدموند دي بيلامي إلى 3 أصدقاء باريسيين، قاموا بتشكيل مجموعة فنية تُدعى أوبفيوس (Collectif Obvious)، واستلهموا أبحاث العالم إيان جودفيلو، مخترع “الشبكات التضادية التوليدية” generative adversarial network))، المعروفة اختصاراً “GANs”.
واستخدم هؤلاء الأصدقاء خوارزمية جودفيلو بعد تغذيتها بـ15000 لوحة، تعود إلى الفترة الممتدة من القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين. وهكذا استطاعت الآلة أن تتمرّن وتُبدع لوحة جديدة مميزة. علماً أنّ هذا البرنامج يقوم على شبكتين عصبيتين متعاكستين: الشبكة التوليدية التي ترسم صوراً، أو تكتب نصوصاً، أوتصدر أصواتاً، بينما تحاول الشبكة التمييزية نقد العمل الفني، وتحديد ما إذا كانت هذه الإبداعات تبدو حقيقية أم مفبركة. هكذا يعمل الذكاءان سوياً لخلق عمل فني مبتكر، وإقصاء اللوحة التي لا تحترم المعايير المطلوبة.
الجدير بالذكر أنّ عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينج (1912-1954)، هو أول من استكشف مجال الآلات الذكية، التي استوحى عملها بشكل خاص من الخلايا العصبية في الدماغ، التي تتميز بقدرتها على جمع المعلومات ومقارنتها، ثم اتخاذ القرارات انطلاقاً منها.
يتيح اليوم “التعلّم العميق” (Deep learning) للآلات تدريب “خلاياها العصبية الاصطناعية”، وتغذيتها بكميات هائلة من البيانات لكي تتعلّم بنفسها، وتنشىء أنماطاً مثالية وإبداعات فنية يصعب تمييزها عن الأعمال البشرية.
يرفض بعض الفنانين فكرة استيلاء الذكاء الاصطناعي على دورهم الإبداعي، ويعتبرونه مجرد وسيلة علمية يمكن استخدامها لتطوير الفن واستكشاف آفاق جديدة. يرى فالنتين شميت، صاحب كتاب (Propos sur l’art et l’intelligence artificielle)، أنّ الذكاء الاصطناعي هو أداة تقنية ومصدر إلهام في آن واحد. ويشبّه شميت ظهور الذكاء الاصطناعي باختراع التصوير الفوتوغرافي في القرن الثامن عشر، الذي ثار عليه العديد من المبدعين في تلك الحقبة.
ولا يجب أن ننسى أنّ المهيمنين في الحقل الفني ينظرون دائماً بريبة إلى كل ما هو جديد. على سبيل المثال، كان يُنظر إلى البيانو بازدراء، في وقتٍ كان الجميع فيه يعتقد أنّ القيثارة هي الألة الموسيقية التي لا تُضاهى. وبعد عدة قرون من ظهور البيانو، أصبح الموسيقيون يخشون أن تأخذ أجهزة المزج الصوتي وظائفهم، لأنّها تستطيع إعادة إنتاج أصوات الآلات، ولكنّ هذه الخسارة لم تحدث.
بالإضافة إلى ذلك، يُعَدُّ الذكاء الاصطناعي أيضاً وسيلة ممتازة لاختبار التجارب التفاعلية، التي تجعل الزائر ينغمس في العمل الفني ويتفاعل معه، كما في حالة مشروع “ووندرلاند دريمز” في مدينة نيويورك، المقتبس من قصة “أليس في بلاد العجائب” للكاتب لويس كارول، والذي يجعل الزائر يختبر أحاسيس ويعيش تجارب جديدة تفتقد إليها الفنون الكلاسيكية.
وهناك أيضاً معرض فني بعنوان “نسيج الحلم” (Dream tapestry)، في “متحف سلفادور دالي” في فلوريدا الأميركية، يستخدم الذكاء الاصطناعي متيحاً للزائرين تحويل أحلامهم إلى لوحات فنية.
من جهة أخرى، تطرح الأعمال الفنية المنتَجة بواسطة الذكاء الاصطناعي أسئلة عدة مشروعة عن حقوق الملكية الفكرية: فمن يملك العمل المُنتَج ومن يستفيد منه؟ هل هو الشخص الذي كتب الكلمات بغرض الحصول على لوحة مثلاً؟ أم هو مصمم الخوارزمية؟ أم هو الفنان الذي استخدم البرنامج أعماله للاستلهام منها وابتكار شيء جديد؟
وقد حسم “مكتب حقوق الطبع والنشر” الأميركي هذه المسألة في أوائل العام 2022، عندما حاول أحد مصممي الذكاء الاصطناعي الحصول على حقوق الطبع والنشر لإحدى اللوحات فتمّ رفض طلبه. واعتبر القاضي أنّه منذ اللحظة التي يكون فيها الإنسان مسؤولاً عن الخَلق الفني والأدبي، عبر إدخاله كلمات محددة، يصبح هو صاحب الحقوق. وبالتالي لا يمكن للخوارزمية أن تمتلك أي حقوق ملكية فكرية أو قانونية.
يحاجج البعض الآخر من الفنانين بأنّ الذكاء الاصطناعي، على الرغم من قدراته الكبيرة على خلق أعمال فنية جديدة، لا يتمتّع بأي إحساس مرهف ولا يتحلّى بالأصالة. ويؤكّدون أنّ هذه الآلات اعتمدت خلال عملية التعلّم على آلاف اللوحات والصور والتصاميم البشرية حتى استطاعت أن تنتج عملاً فنياً، أي أنّ المبدع الأساسي هو الإنسان، وأنّ الآلة تبقى ذات قدرة خلق محدودة، على الأقل في الوقت الحالي.
في النهاية، سواء اعتبرنا الذكاء الاصطناعي بديلاً من الفنانين، أو مجرد تقنية مساعِدة، لا بُدّ لنا من الاعتراف بأنّ قيمة أي تحفة فنيّة تكمن في تأثيرها على من تتوجّه إليهم في ما تحمله من مضمون، وفي مخاطبتها لمشاعرهم، سواء كانت صورة فوتوغرافية أو مقطوعة موسيقية أو رواية، وذلك بغض النظر عن كيفية ولادة العمل الفنيّ. في حال نجحت الآلة بإثارة عواطفنا، فعندها يمكننا اعتبار الخوارزمية مبدعة تماماً كالإنسان.
المصدر : الميادين نت
رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=16420