تأملات  وأسئلة
يبدو أن الشعر بوصفه جنساً إبداعياً  يعاني اليوم  ليس من جفاء محترفيه قولاً ، بل  من فجوة التلقي  أيضاً.
الشعر كائن نوعي ، لا يعيش  مع العامة  في حناجرها  المؤجرة سلفا ، ولا مع الكراسي  المتشحمة  في كوليسترول  التقية .
الشعر غموض على  طراوة  الشفاه ، و بئر فوق دلاء الوشاية ، و حلم ضد  الكوابيس .
الشعر صحوة في أحلام اليقظة ..
نزيف الروح ساعة المواجهة ..
الشعر لحظة اتقاد ، زمن سائل ، ذاكرة تهذي ، جمال يتجسد  في كلمة  .
الشعر  جنون وبشارة ،  عنفوان وضياء ،  ورؤيا ،.
الشعر متعة  بلا  وصايا ، ويوم بلا أسوار ،  نهايات لا تلهث ،  وأبواب لا نحاس يطرقها ، لا شمع على خاتمتها .
الشعر لحظة هاربة  تتلصص  على حروف في فضاء الكون ، لتلبس حلتها ،  لتشير للشاعر  من بعيد كطلقة قناص ..
كغفوة في باص عام ،  كشرخٍ  في طاقة ، إلتباس في  المعنى .. شهوة عارمة  تسيح على أنوثة الورقة .. خيال مديد على  مداد الكلمات ..
الشعر جروح وندوب  تتحفز   بالرؤيا ، تنتعش بخمر الذاكرة  وهي تجول في  ثنايا الروح .
الشعر خنادق شقية ، ومقابر جماعية ، وأسوار ..
الشعر مدن تناهبتها  أطياف الحروب  ، علكة بلون الدم  ، كرة بلون  الجمر ، لغة  بقوة السوط ، الشعر إدمان وجنون.
لا داعي  للحكمة وهي تطلقه  من فوهتها
لا داعي  للحشمة ، وهي تراه متلبسا  في العري .
الشعر عري تام ، لحظة إستنارة  وإستبصار للظواهر  والأشياء والمكنونات النفسية العميقة ، هو لحظة القبض على الرؤيا  الموجودة على قارعة الطريق ، ولكنها متشظية ومتحدة في الوجود  الطبيعي والبشري  معاً.

الشعر إصطياد الدهشة  بصنارة ماهرة ، بلورة اللحظة  العائمة  وضبطها متلبسة بالجمال.  الشعر  تأمل هائل  في مصائر وفجائع الآخرين ، تدوين على سبورة الأرواح  وقراءة طالعها .
الشعر يزواج الحكمة والفلسفة والسؤال والحلم  بالواقع  وبشكل يحمي الشعر من الذوبان  في جلابيب  الأغراض .
لحظة الشعر حسب باشلار « لحظة ميتافيزيقية «  ، لحظة الإمساك  بقوة الرؤيا الجمالية ،  فضول دائم ، دهشة وانبهار، طفولة لا تكف عن الإحتفاء بالحياة  كل حين .
الشعر نزوع جمالي وانساني لتدوين الحظات الهاربة من تاريح الروح والجسد ، الشعر مصل ضد إنقراض  الجنس البشري ، إكسير  وخمرة  وسحر  وتقنية  وحرفة وصنعة  واشتغال يدوي وفكري .
الشعر موقف إزاء الخراب  الذي يتهدد  فصول السنة  وهارمونها المبهر ، إزاء  الحرائق في  الغابات ،  جفاف الأهوار ، حملات القتل المنظم للحيوانات النادرة إزاء انقراض لحظة الجمال حيثما وإينما  وجدت .

كم  يأخذني   التمعن   حينما أقرأ  تعاريف قارة  للشعر في موروثنا العربي ، فها هو إبن خلدون  يصف الشعر بانه «هو كلام مفصل قطعاً قطعاً متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رَوِيّا» ،  فيما قال عنه ابن منظور: «الشعر: منظوم القول غلب عليه؛ لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعراً
ويقول الجرجاني: «أنا أقول – أيدك الله – إن الشعر علمٌ من علوم العرب يشترك فيه الطبعُ والرّواية والذكاء»
يقول القرطاجني: «النظم صناعة آلتها الطبع. والطبع هو استكمال للنفس في فهم أسرار الكلام، والبصيرة بالمذاهب والأغراض التي من شأن الكلام الشعري أن ينحى به نحوها؛ فإذا أحاطت بذلك علما قويت على صوغ الكلام بحسبه عملا»
يقول الجاحظ: «… والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسيج، وجنس من التصوير»
فترى هامات العرب النقدية تتراوح في تعريفها للشعر بين الصناعة والصياغة  والطلاوة والحلاوة والسبك والقافية والوزن .. الخ ، ولم يدر في خلد أسلافنا العظام إن الشعر سيصل الى مراتب وجودية عالية ، ويحلق الى آفاق نائية ، لم يختصرها الوزن ولا القافية ولا المعنى الجميل ،  الشعر هو وجود الإنسان أولا في قلبك وعقلك، باب مفتوح وقنديل لا ينطفىء لاستقبال لحظة الاختمار الآني في مشاركة فعّالة  مع الكائنات والطبيعة معا.
لقد  قال الشعر كلمته ومضى يحلق عاليا كالنسر في أسئلة الوجود الكوني والإنساني ، مضى الشعر نافضاً غبار الوصايا والتعريفات والأسوار ..

وديع شامخ