كيف يصل العقل فجأة إلى إجابة مسألة معقّدة حيّرتنا لفترات طويلة؟

ميادة  سليمان

قيل قديمًا: إنّ العمليّة الإبداعيّة مرتبطة بعوامل معيّنة تحدث للمبدع أثناء الكتابة، وهي نظريّة الإلهام من خلال نظريّة (المُثل الأفلاطونيّة)

وفي العصر الحديث ظهرت الكثير من النّظريّات العمليّة الّتي ترفض نظريّة الإلهام، وتحكّم العقل في العمليّة الإبداعيّة

فأينَ المبدع من هذين الرّأيَين؟

وما هو الإلهام، كيف يحدث، ومتى؟

يؤكّد ستيڤن كينچ:

“ الكُتّاب وأنا، جميعنا نعلم بأنّنا لا نعلم من أين يأتي الإبداع”

إذًا: هل الإلهام هو حالة من الجنون، أم نوع من القوى الخارقة للطّبيعة يتمتّع بها فقط القليل من المبدعين؟

لا شكّ أنّ الإلهام موهبة من الله تظهر ملامحها في عدّة مجالات كالرّسم، الكتابة، التّصوير، النّحت، التّصميم، الخطابة وتحفّز صاحبها على الإبداع والعطاء.

ماذا عن دور الإلهام، والعقل في العمليّة الإبداعيّة؟

من خلال مطالعاتي في هذا البحث رأيت أنّ القلائل نقضوا أهميّة الدّور المعوَّل على الإلهام، ومازال هناك خلاف حول العمليّة الإبداعيّة، ولكن كثر يرون أنّه إلهام فقد توصّل أنصار نظريّة الإلهام إلى خلاصة مفادها:

أنّ الإبداع النّفسيّ يحدث فجأة دون تدخّل، أوعقل، أوإرادة؛ فالفنّان يُشرق عليه الإلهام في ومضةٍ، وهُم يرون أنّ هذه الومضة لاتكترث بفكرٍ، أو إرادةٍ، أمّا أنا فأرى أنّه إلهامٌ يُصقل بالفكر، والعقل، والثّقافة، ففي كثيرٍ من الأحيان أكتب قصيدةً، وهنا:

فكرةُ القصيدة هي الومضةُ الأولى الّتي خطرت في بالي، ولكن بعد أن أكتبها أحاول أن أضيف إليها شيئًا من مخزوني الفكريّ، والثّقافيّ، وهذا يحتّم عليَّ أحيانًا المطالعة، والبحث، وهنا بدا دور العقل واضحًا، وهو ممّا لايمكن نكرانه.

وهذا ليس كما كان سائدًا عند الإغريق أنّ هناك آلهات تتخصّص بالفنون فالأسطورة تقول:

إنّ الإله زيوس كان لديه (تسعُ بناتٍ) وكلّ واحدة كانت ربّة إلهام، ولذلك كانوا يعتقدون أنّ الإله يهب الشّاعر القدرة على قول الشّعر وربّما هذا يشبه ماكان يقوله الشّعراء الجاهليّون (أنَّ لكلّ شاعرٍ شيطانَ شعرٍ)

وأستشهد بقول ظريف للكاتب العرابي لخضر:

“ ربّما سموه شيطانًا لأنّه كان ذا دورٍ دفاعيٍّ، أو هجوميٍّ، في معظم الأحيان حتّى في الغزل كانت القصائد مصحوبةً بالحديث عن البطولات والمعارك والفروسيّة ولذلك كان الأنسب ردّها إلى (شياطين ذكور) لا إلى (فتيات عذراوات)

كما كان الحال عند الإغريق.

* الإلهام من وجهة نظر علماء النّفس:

يقول عالم النّفس الوجوديّ رولو ماي في كتابه (شجاعة الإبداع):

“البصيرة لا يمكن أن تولد في كثير من الأحيان إّلا بعد أن يسترخي التّوتر الواعي والّتناول الواعي”

ويقول في كتابه( الشّجاعة أن تبدع):

طوال حياتي وأنا مطارد بمسائل الإبداع السّاحرة، فلماذا “تطفو” من اللاوعي في لحظة معيّنة فكرة أصيلة في العلم أو الفنّ؟

وما العلاقة بين الموهبة، والفعل المبدع، وبين الإبداع والموت؟

لماذا تمنحنا مسرحيّة صامتة، أو راقصة كلّ هذه البهجة؟

سألت نفسي هذه الأسئلة لا بوصفي متفرّجًا، ولكن بوصفي شخصًا يشارك هو نفسه في الفنّ، والعلم. سألتُها بدافع من الإثارة التي أعانيها، عندما أتأمّل، على سبيل المثال، لونين من ألواني يختلطان ليخرج منهما لون ثالث لم أكن أتوقّعه. أليس من السّمات المميّزة للكائن البشريّ، أن يتوقّف لحظة في سباق التّطوّر المحموم ليرسم على جدران الكهف في( لاساوكز، وألتراميرا) تلك الوعول، والثّيران البنيّة المشرّبة بالحمرة التي مازالت تملؤنا بالإعجاب، والرّهبة الممتزجين بالدّهشة؟

* الإلهام قديمًا:

كلُّنا نتساءل:

في قديم الزَّمان نسب العرب في العصر الجاهليِّ الإلهام عند الشُّعراء بأنَّه استعانة بالجنِّ، لأنَّهم يأتون بأجمل القصائد الشِّعريَّة الَّتي تفوق بوصفها مدارك الإنسان، واعتبروا (وادي عبقر) بالمدينة المنوَّرة مصدر إلهامهم.

يُعرَّف ابن تيميّة الإلهام بأنّه “إشراف المعرفة، وانبثاقها دفعة واحدة، بدون مقدّمات معيّنة، أو تذكّر لمحفوظ، أو خبرة واضحة”.

فالإلهام بهذا المعنى طريقٌ من طرقِ المعرفة عند جميع العلماء المحقِّقين، إلا أنّ المتصوّفة، عدُّوه الطّريق الوحيد للمعرفة، وأنّ التّربية الصّوفيّة القاسية هدفُها الوحيد الوصول إلى هذه الدّرجة من المعرفة، ونَيْل السّعادة في الدّنيا والآخرة، وهذا الرّأي نجده واضحًا عند الغزاليّ في كتابه “المنقذ من الضّلال”..

وغلا بعضُهم أكثرَ من ذلك في تقدير الإلهام؛ إذ وضَعه بمرتبةِ الوحي للأنبياء والرّسل، حتى أصبح العارفُ الصّوفيُّ عندهم إنسانًا لا حدودَ لإلهامه، قد انكشفت حجب الغيب أمامه، والتقى بالملأ الأعلى، وبأرواح الأنبياء والرّسل جميعًا، وهذا ما نجدُه عند ابن عربيّ الأندلسيّ في كتابه “الفتوحات المكيّة”.

أمَّا الإغريق، فقد وصفوا الإلهام بالسِّحر، والاستعانة بالشَّيطان، ونعتوا مفكِّريهم، ومبدعيهم بالسَّحَرة، والكفر، بل ازدادوا عدوانيَّةً، وإجحافًا،وصلبوهم، وقتلوهم لأنَّهم أتَوا بأفكار تفوق مدارك الآخرين في العصور المظلمة.

أمَّا أفلاطون فيشبّه أفكارنا، كأنّها طيور ترفرف في أقفاص عقولنا، لا يمكنها أن تستقرّ، إلّا عندما نتيح لها فترات من الرّاحة الخالية من الأهداف، لذلك فكثيرًا ما يقال إنّ أفضل أفكارنا تأتينا عندما لا نفكّر بها. إنّ لحظاتٍ مثل الّتي نُحدّق فيها من النّافذة دون هدف تسمح لصوتنا الدّاخليّ الدّفين، وأفكارنا المختبئة بأن تطلّ قليلًا إلى نافذة الوعي.

* الإلهام في حياتنا اليوميّة:

نتساءل أحيانًا:

لماذا تطفو من اللاشعور في لحظة معينة فكرة أصيلة في العلم أو الفنّ؟

كيف يصل العقل فجأة إلى إجابة مسألة معقّدة حيّرتنا لفترات طويلة؟

تبدو المشكلة للوهلة الأولى مستحيلة الحلّ، لكن بعد الكثير من البحث، والتّفكير، يظهر لنا الحلّ بطريقة سحريّة من حيث لا نتوقّع، من مكان يحفّه الكثير من الغموض. فما الّذي يحدث بالضّبط؟

يحكي “رولو ماي” عن هذا الموقف في كتابه “شجاعة الإبداع” فيقول: “ليس منّا من لم يستخدم من حين إلى آخر تعبيرات مثل (وبغتةً انبثقت فكرة) أو (جاءت فكرة على نحو غير متوقَّع) أو (هبطت) أو (جادت وكأنَّها حلم) أو (فجأةً خطرت لي) هذه كلها طرائق متنوعة لوصف تجربة مشتركة هي:

انطلاق الأفكار من عمق كامن تحت سطح اللاوعي”.

إذا اختبرنا لحظة تنوير كهذه فغالبا نسأل أنفسنا ما الذي حدث؟ وكيف جاءتني هذه الفكرة دون توقُّع سابق؟

تشير دراسات علم نفس الإبداع للإجابة عن هذا السُّؤال إلى أهميَّة “لحظات الاسترخاء، والابتعاد المؤقَّت” في السَّماح للأفكار المهمَّة بأن تظهر. إنَّ ما يفعله النَّاس غالبًا هو العكس من ذلك، فهم يبذلون الكثير من الجهد والإلحاح في مطاردة الفكرة التي يعملون عليها، لكن في الغالب هذا الضَّغط، والعمل المستمرّ لا يؤدّي إلى نتائج فريدة، بينما تأتينا أفضل أفكارنا، ونحن منهمكون في نشاط مريح لا علاقة له بالموضوع الّذي نعمل عليه. فمثلًا لم يكن “ماكس فيبر” يرى أيَّ فضيلة في الكدح والاجتهاد، وكان يقول إنَّ أفضل أفكاره أتت إليه عندما كان يسترخي على الأريكة، ويدخّن سيجاره.

ويروي بوانكاريه تجربة حدثت معه مبيِّنًا أنّ صرف النّظر عن الفكرة، ونسيانها أفضل طريقة للإلهام:

“صرفتُ انتباهي إلى دراسة المسائل الحسابيّة دون نجاح يُذكر، وحين أصابني الاشمئزاز من إخفاقي ذهبتُ لقضاء أيّام قلائل على شاطئ البحر، واتّجهت بتفكيري إلى شيء آخر، وذات صباح أثناء سيري على جرفٍ عالٍ، خطرت لي الفكرة بسمات الإيجاز، والمباغتة، واليقين الفوريّ نفسِها، وهي أنّ التّحوّلات الحسابيّة للصّيغ التّربيعيّة الثّلاثيّة غير المحدّدة مطابقة مع أشكال الهندسة اللاإقليديّة..”. ويتساءل بوانكاريه بعد هذه التّجارب ما الّذي يحدث في العقل، كي تنبثق كلّ هذه الأفكار من مكانٍ ما في هذه اللحظة تحديدًا؟ وما يقترحه أنّ من الممكن أن تكون فترات الرّاحة تعمل على إعادة النّضارة للعقل المتعَب من العمل، لكن هذه التّجلّيات لن يحظى بها المرء دون أن يسبقها عمل جادّ على الموضوع المقصود حلّه. بالتّالي فهو يرى ضرورة التّناوب بين العمل، والاسترخاء، إذ إنّ الاستبصارات تأتي غالبًا في لحظات الانقطاع بين الحالتين، أو على الأقلّ خلال اللحظة.

* هل يمكن لنمط من التّفكير أن يحفّز الإبداع؟

في دراسة حديثة، تتبّع مارك بيمان، و جون كونيوس نظرات النّاس وهم يحاولون حلّ أحد الاختبارات الّتي تحدّد الإمكانات الإبداعيّة للإنسان.

يعرض العلماء على المشاركين في الاختبار سلسلة من الكلمات، وعليهم التّفكير في كلمة واحدة فقط، يمكنها أن تقترن بالكلمات السّابقة بشكل منطقيّ.

مثلًا عليه أن يجد كلمة تناسب جميع الكلمات الآتية: «صنوبر»، «مرق»، «فاكهة».

أراد الباحثون أن يعرفوا إذا كانت ثمّة علاقة بين اتّجاهات أعيُن الأشخاص، ومعدل وميضها، وبين طريقة التّفكير، واحتمالات نجاحهم.

تبيّن أنّ الّذين ينظرون إلى كلمة بعينها -مثلًا: صنوبر- ويركّزون عليها، يكونون أكثر ميلًا للتّفكير بطريقة تحليليّة في نطاق ضيّق، بحيث يفكّرون في الاحتمالات المنطقيّة لكلمة واحدة، وبالتّالي ينبذون أيّ احتمالات أخرى.

عندما ينظر الشّخص للكلمات الثّلاث، ويتوقّف عن التّركيز على كلمة واحدة -أي يقوم بتحريك عينيه والوميض المتكرّر- في هذه الحالة يصبح أكثر ميلًا للتّفكير بشكل أوسع، وأكثر تجريدًا. هذا النّمط يؤدّي إلى حدوث الاستبصار والإلهام.

المصادر:

رولو ماي/ شجاعة الإبداع/ط١/ دار سعاد الصّباح/الكويت/ ترجمة فؤاد كامل/ ١٩٩٢م

رولو ماي/ الشّجاعة أن تبدع/ط١/دار الكلمة/

ترجمة محمّد حسن أحمد غنيم/٢٠١١م….