أسماء الرومي
تركت كلّ شيء خلفي وهربت، لكن السنوات العشر التي عشتها في طقطق حرمت الأولاد من حق التعليم.
لا أدري كيف أصفهن أولئك النسوة الجميلات، بنات أور، ولا أدري إن كنت موعودةً بلقائهن
في رحلة العلاج الطويلة لأربيل لم تكن ظروفنا اعتيادية، لكن البقاء في مدينة جميلة يعد مطمئناً لي أنا القادمة من الجنوب الملتهب صيفاً، جمال الطقس يدفعني للاستمتاع كل مساء بأجواء الحديقة القريبة من السكن، فمنظر الجبال العالية من جهة الجنوب يمنحني الشعور بالقوة والاكتمال، ومنظر المدينة البعيدة وهي تبدو لنا مقعرة كعدسة كبيرة مليئة بالاضواء والحركة عامرة بالحياة من جهة الغرب ينعش الإحساس بالوجود، بالإضافة الى أن الجلوس في حديقة مليئة بالاشجار الصغيرة بين مجموعة كبيرة من البنايات العالية لم يكن منظراً مألوفاً بالنسبة لي .
تشدني الجهات كلها بجماليات كثيرة ومختلفة ولكن في كل مكان ثمة منغصات، وهناك عشت حكايات بنات أور اللائي قابلتهن وتفاعلت مع أوجاعهن والغريب أن أغلبهن كن أرامل، ولكل منهن قصة وغصة.
في أحد المساءات نزلت الى الحديقة وثمة امراة تبحث بين العشب عن شيء ما، كنت قد رأيتها سابقا أكثر من مرة وهي ذاهبة للمحال التجارية للتبضع وكل ما أعرفه عنها أنها جارتنا في البناية وتسكن في الطابق الرابع فوقنا بطابقين وهي أم تلك الطفلة النحيلة خفيفة الحركة التي تركب دراجتها الهوائية كل مساء للتجول والتنزه.
كانت تبحث بحرقة ، حييتها وسألت : عن ماذا تبحثين؟ فرفعت رأسها بابتسامة تليق بسمرتها وأجابت بخجل وحرقة أبحث عن قرط صغيرتي أضاعته اثناء لعبها ، متى أضاعته؟ سألتها ،ما شكله ؟ما حجمه ؟
لم تجبني فقط أخرجت القرط الثاني لتريني إياه، فرحت أبحث معها ولم نجد شيئاً حتى غادرنا المكان سوياً على أمل أن تبحث عنه في الصباح الباكر .
في مساء اليوم التالي وجدتها تجلس في الحديقة بوقت مبكر وبعد التحية سبقتي في الحديث وقالت وجدت القرط أو بالأحرى وجده العامل الذي يغسل الشارع صباحاً فسعدت لتباشير وجهها ، حدثتني عن الحلي الذهبية التي أضاعتها، وعن حبها لها، كنت أراقب لهجتها فثمة اختلاف بين لهجات مدننا العراقية وبسهولة عرفت أنها تكريتية الاصل بعد أن جاءها اتصال هاتفي جعلها تغضب قليلاً سمعتها تلفظ الكمات كالآتي (اقلو، اهلو ،بنتو) وبعد انتهائها ، سالتني عن سبب مجيئي وسكني في أربيل – كل العرب هناك يسألون بعضهم البعض من اين جئت ولماذا – وحين سألتها أنا أطلقت حسرة كبيرة ولمعت عيناها وأجابت بصوتها الرخيم: جئت الى هنا من منطقة تدعى طقطق بين أربيل والسليمانية على الزاب الصغير ولكنني من تكريت، رحلنا الى محافظة ديالى بعد أن قتلت عناصر القاعدة أولاد عمومتي وهناك اكملت داعش الحكاية بذبح زوجي واخيه اللذين لم نعثر على رأسيهما ومن ثم أحرقوا دارنا وهدموه بعد أن هربت بأولادي الأربعة حين علمت أنهم ينوون ذبحهم، تركت كل شيء خلفي وهربت، لكن السنوات العشر التي عشتها في طقطق حرمت الأولاد من حق التعليم. المنطقة كردية تماماً لا يسكنها العرب، فقررت قبل بضعة أشهر أن أترك خلفي كل شي مرة أخرى لأوفر لهم إمكانية التعلم .
كم عانت ابنة أور هذه ، كم حملت من هموم وجراح وهي بعد في منتصف الثلاثين من عمرها وكم مرة عليها أن تترك كل شيء خلفها وترحل ؟!