حسن دعبل
لو لم تكن دلمون في الخلود، لما كتبها الأدباء والكهنة، ودونوها في ملحمة جلجامش الخالدة. ولأنهم أرادوا لهذه الملحمة الإنسانية البقاء والخلود في ذكراها لسائر البشرية جمعاء، وبلا إستثناء لذاكرتهم في سفرها وأسفارها الأبدية، وبحثها وعباداتها في معرفة مصيرها الإنساني وخلوده. لذا بقيت دلمون خالدة وطاهرة ومكان نظيف، ومشرقة دوماً. لا ينعق الغراب في دلمون، ولا الحدأة، ولا أحد يؤلمه رأسه أو صداعه، ولا المرأة العجوز تشتكي، ولا العجوز يشتكي من الهرم والطعن في العمر. لذا كانت دلمون ميناء العالم القديم وشرقه البعيد، ومنذ أشرقت منه الشمس، وسمي بحره بالبحر السُفلي والمُرّ. ولم يكن بالمستغرب للكاهنة سيدوري، أن تكون حاناتها الغافية على حافة البحر الدلموني، وبوابة جنته العدنية، سوى محراب للتعبّد والإنشاد والنصائح، لمن أراد أن يعبر هذا البحر، ويُخلّد، ويبحث عن سر عشبته المائية الخالدة، وأعماقها، وعن تلك الجنة المُبتغاة. لذا لا غرابة أن تكون نصيحتها مدوّية لجلجامش:
إلى أين تمضي يا جلجامش؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها. فالآلهة لما خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيباً، وحبست في أيديها الحياة. بهذه الحيرة، والعجز لجلجامش الباحث عن خلوده، كانت الكاهنة والسادرة بنصف غشاءٍ وغطاء في بوابة حانتها «سيدوري»، العارفة لأسرار دلمون وبوابتها المائية وسرّ خلودها.
من هنا تكون هذه النافذة أو البوابة، ولتكن بوابة سيدوري الدلمونية لكل الحكايات والأسفار والأناشيد، وزيارات القبور المائية المُخلّدة، والمرديات الناجية والمُنجية لبحارتها القدماء، بغنائهم، ورقصهم، وزادهم، وأكلهم، وحكاياتهم في أسفارهم البعيدة، وأشرعتهم البيضاء، وهم يمخُرون بحار العالم.
ودلمون، هو كل هذا الشطر البحري لكل حضارات المشرق القديم، وبوابة حضارات وادي الرافدين، وموانئة البحرية لتجارة الشرق والغرب، لبحره العلوي الذي يصله بكل العالم. لذا ستكون هذه الموجة البيضاء الخالدة المسافرة من دلمون وبحرها، محمّلة بكل تلك الأسفار، والكتب، والكتابات، والحيوات التي كانت ولم تكن. بعيداً عن النمطية المُبتلاة، لكائن هذا المكان الخالد، قبل أن يُخلّد بسيرة وسيّر عابرة فقيرة، وبواخرٍ عملاقة مُحملة بنفطه الأسود، وقلم لم يُسطّر سيرة، مما سنكتبه ونلاحق موجته، بما حملت من زبدها قبل أن يذهب، ويجفّ، وتعطش أرضه، وتبقى هذه البوابة مُشرعة في هذا المحيط.