وديع شامخ
الهجرة صنو الرغبة في التحليق الى سماوات تحتمل رغبة ونزق الأجنحة الى الأعالي .
وللطيور منطقها كما جاء في كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار،موضوع الكتاب هو رحلة أو هجرة الطيور للبحث عن الطائر المعروف بسيمورغ، والطيور هنا ترمز الى أهل الصوفية، وأما السيمورغ فيرمز الى الله “وتبدأ القصة بتوجيه الخطاب والترحيب بثلاثة عشر طائراً ينعقد بهم المجلس، فيقررون إتباع مرشد لهم أثناء بحثهم عن السيمورغ، حتى اختاروا الهدهد ، لم تكد أنواع الطيور تصمم على الوصول إلى السيمرغ حتى عادت فوجدت الطريق إليه طويلة ومتعبة، فأخذ كل طائر منها يلتمس لنفسه عذراً من الأعذار” وهو تعبير رمزي عن عجز الكائنات البشرية عن الوصول الى العالم الروحي.
وللطيور هجراتها من الأقصى الى الأدني في طيران مديد، ولها أسبابها في الهجرة كما جاء في الخبر “تتعدّد الأسباب التي تدفع الطّيور للهجرة، ولعلّ أبرزها هي الحصول على مصدر وفير للغذاء ، ومن الطّبيعي ألّا يتوافر الغذاء في المنطقة الجغرافيّة نفسها على مدار العام نفسه؛ لذلك تلجأ الطيور للهجرة بين الفصول إلى المناطق المختلفة، وكذلك الرغبة في التّمتّع بساعات نهار أطول، والفوز بتنافس أقل على مساحات ومواقع التعشيش، بالإضافة إلى الرغبة في الحصول على مناخ أكثر اعتدالاً”
كما أن للطيور أمزجتها في إختيار التوقيت الزمني للرحيل إذ “لا تهاجر جميع الطّيور في الوقت نفسه من اليوم؛ فبعض الطيور تفضّل الهجرة أثناء اللّيل، وبعضها الآخر تفضّل الطّيران خلال النّهار”
ومع كل مخاطر الهجرات التي تقوم بها الطيور المتمثلة ب”الإجهاد البدنيّ أثناء الطيران. نقص الإمدادات الغذائيّة. سوء الأحوال الجويّة. خطر التعرّض للافتراس. التّصادم مع الأبنية والأبراج” .
لكن الطيور تنتصر لرغبتها ومزاجها في الهجرات .
والبشر لهم هجراتهم وهم يطوفون الأرض بحثا عن الملاذ الآمن والوطن الذي به تستقيم القامات وتنتصب الهامات وتتفتح للعقول آفاقا رحبة .
يبحثون عن هويات إنسانية خارج سجونهم الوطنية وأحلامهم التي تحولت الى كوابيس يومية . وكما يقول الشاعر محمود درويش في كتابة “ يوميات الحزن العادي “ عن سبب خروجه من فلسطين ، بأن إقامته في بلده تحولت الى سجن وإقامة جبرية لا تليق بشاعر حر وتُمثل تعطيلاً مباشرة لدوره في الحياة .
وهجرات البشر عبر التأريخ تمثل نزوعاً بمضمونين قوامهما الرغبة في التغيير الشامل لواقع الحياة أفرادا وجماعات ، أو الهروب من سطوة السلطات وجبروتها .
وأنا هنا أستثني الغزوات والإحتلالات من قبل شعوب وحكومات لشعوب أخرى أو هروب المجرمين من وجه العدالة كأفراد .
ولم تخلو الُأعمال الأدبية شعراً و سرداً من نصيب وافر في بحث هجرة الكائن الإنساني المقهور لضفاف بعيدة ، ولعل رواية المبدع الطيب صالح الشهيرة “ موسم الهجرة الى الشمال “ تمثل نموذجا من الهجرات التي سيكون بطلها صالح مصفى سعيد في رحلته من الخرطوم الى القاهرة صعودا الى لندن وهناك تبدأ موهبته في إقرار استحقاقها في المحافل الأكاديمية بجانب نزواته الجنسية مع النساء الشقراوت حاملاً سحر الشرق بغاباته وأساطيره ونهر النيل ، ليكون مصطفى سعيد سريرا ثراُ للحسناوات لاستنشاق بخوره وفحولته معا .
ولست بصدد استعراض الرواية بشكل نقدي بقدر تعلق الأمر بهجرة سعيد و مآربها، كي تتيح لنا خاطة طريق لفهم الهجرة من منظور سردي يخالط به الواقع والخيال لخلق مفهوم جديد عن الهجرة وبطلها الإنسان و تأثيره على الآخر
ولعل ختام قصدي هو هجرة الروح، وهل الأرواح تهاجر خارج أبدانها وتشكّلها الفيزيقي ؟
هل الأرواح التي تنتمي الى عالم “ الميتافيزقيا” تصلح للإمتثال والمعاينة في ظروف مختبرية محددة ؟
هنا لابد من الشعر لإنقاذنا من ورطة السؤال .
ولابد للروح أن تتقمص حلم الشاعر في الطيران بحروفه وجروحه وخساراته الأرضية ، فالشاعر ذات طائرة لا تملك أجنحة الطيور ولكنها تُحلّق في سماوات أعلى وأشّد زرقة من كوامن البحر واللازورد ..
هجرة الروح تعني أن الأقفاص لم تعد تشير الى الحياة، أصبحت مقبرة ولها عظامها وجماجمها وأفواهها المملؤة بتراب الذل .
أيها الشعر يا أبي الشرعي وصنو روحي القلقة
أحملني الى الهناك
ينتصب أبو العلاء المعري ، ليدق باب الرؤيا عني ويقول :
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
للروح هجرتها و للجسد قيامته، والحرية قدر لا يليق إلا بالأرواح المُحلّقة في أثيرها .