#مجلة_النجوم_سيدني

بقلم الكاتب نعيم شقير

الهاربون من الموت إلى الموت

الذي كان يحلم بنافذة يحلم الآن بجدار ..

والذي كان يبغي شرفة لجنونه يبغي الآن خابية لصوته ..

والذي كان يثيره بياض الورق يسكره الآن بياض الصمت ..

والذي كان يشتهي ان يجيء يشتهي الآن أن يواري وجهه ..

من الإثنين إلى الإثنين وجبة كاملة من الجثث ، أعمارها طازجة وثمارها عائلات بأكملها ، والقناص لم يكن طائرة ولا متفجرة ، كان بحراً من الماء المالح ، ابتلع صرخات الاطفال وبكاء النسوة وصلوات العجائز ..

من الاثنين إلى الإثنين جنازات كثيرة تصطف بين أصابعك ، فكيف تكتب ما يفتح الأفق ، كيف يلمع بين سطورك وعد ؟

***

المركب الذي غرق في البحر ، وكان على متنه ، 150 شخصا تراوحت أعمارهم بين السنة والسبعين ، ودفعوا ثمن هروبهم بالعملة الصعبة التي حصلوا عليها بالطرق الصعبة ، فالذي باع بيته ، والذي باع ارضه ، والذي استدان من قريبه ، والذي رهن حجج بيت أهله ، والذي باع درابزين بيته بالكيلو ليكمل ثمن تذكرة الهروب ، التي كانت باهظة تساوي رحلة فاخرة من الدرجة الأولى على أفخم أسطول جوي ، 3000دولار على الشخص الواحد ، حيث لا مقاعد ولا أمكنة للنوم ، بل رحلة إلى موت مؤكد ، وإذا لعب الحظ لعبته فالى سجن مؤكد في الدولة المقابلة ..

تعددت جنسياتهم ، فلسطينيون وسوريون ولبنانيون ، لكن تجمعهم جنسية واحدة ذهبية هي جنسية الفقر والتعتير واليأس من انتظار الحلول ، والبحث عن نقطة ماء للاستحمام وعن حبة دواء للمرضى وعن علبة حليب للاطفال ، بعدما جفت اثداء الأمهات ويبست قهراً وذلاً ومعاناة ..

الذين سقطوا أمواتا إنما سقطوا منذ زمن بعيد ، منذ عزت اللقمة في بلادهم ، ومنذ فقدت حبة الدواء في مخيماتهم ، ومنذ انقطعت الكهرباء عن حياتهم ، وندرت قطرة المازوت ، وتبخرت الشموع ، وفقدت قوارير الغاز ، وانقطعت المياه ، وبخلت السماء بالمطر ، فكان لا بد من ركوب المغامرة ، التي جُربت مرات كثيرة وذهبت بأبطالها إلى قعر البحار وإلى القبور ، وقلة قليلة الى السجن في الدولة المضيفة قبل أن تعيدهم على مركب حديث إلى فقرهم السابق ، وإلى ديونهم التي كانت في انتظارهم ، وإلى قبورهم المفقودة التي يبلغ ثمن القبر ألف دولار لمن لا يملك إلا كلمة حسبنا الله ونعم الوكيل ..

ومن فاز منهم بالوصول إلى مبتغاه ، وكان حظه كبيرًا أنه لم يقع في قبضة البوليس ، عاش في الخفاء ، تحت خط الفقر في بلاد كثرت فيها الأضواء وقلّت فيها المساعدات ..

عاشوا في الخفاء تحت خط الغربة ، وفي العراء رغم البرد الشديد ، وفي حرير الخوف الذي يشبه لسعة النار التي تحرق ولا تُدفىء ..

كانوا يعدّون الساعات لتسديد ديونهم قبل القاء القبض عليهم ، كانوا يخشون الكلاب البوليسية القادرة على اصطيادهم من بين الآلاف ..

***

بالأمس وصلوا ..

في أكياس سوداء ..

وفي صناديق من خشب ..

وفي توابيت تحمل نكهة المصيبة ..

وفي جروح تنكسر لها النفوس ، وتجفل من هولها القلوب ..

عادوا أمواتا ليستقبلهم التراب بالدمع والدفء ..

كانوا ذاهبين الى الحلم الذي راودهم سنوات طويلة ، إلى أوروبا حيث الخبز والكتاب والماء الساخن والدواء ، والمستقبل المضمون للأطفال ، لكنهم عادوا في زمن قياسي ، في خمسة أيام كل يوم يبلغ خمسين ألف سنة مما تعدون ..

شاهدوا في خمسة أيام أهوالًا لا يمكن ابتكارها في هوليود ، أهوال البحر الغاضب والهادر ، الذي ابتلعهم أحياء وشربهم حتى الامتلاء ، وجعل عيونهم مفتحة على الأهوال ، ومن كان محظوظا لم يصادفه قرش مفترس ، ومن كان متعوساً صار وليمة لوحوش البحر التي لفظت لحمه واتجهت الى السمك الأطيب ، لكنها تركت بصماتها على جثته ، وأسنانها على مفاصله ، وتركته طعاماً لحيوانات جائعة تفترسه على أقل من مهلها ..

***

ترجلوا عن صهوات أعمارهم الطرية ..

نزل صراخ رصين من أجراس عيونهم ..

وانطفأوا فجأة ..

تداخلت رموشهم كالذكريات ..

امتدت قاماتهم في قعر المحيطات ، كمن يغرز أسنانه في لحم الهجرة ..

وكما عاشوا هكذا ماتوا بلا أحقاد ولا احتفال ، إلا على نشرات الاخبار ، حيث تحولت قصصهم إلى موت جديد ، وعذاب شديد ، وحقد دفين ، على دولة تركت شعبها يهرب من الموت الى الموت ..

كانوا من حزب الخبز فقط ..

باكرًا يذهبون اليه ، ويرجعون منهكين يشربون ضحكات اطفالهم وينامون ..

ها هو العزاء ينتصب لاستقبالهم ، بالثياب السوداء والنفوس القاتمة التي تنذر باهوال آتية ..

ها هي نكهة اليتم تعطر لحظة الوصول ..

ها هي الدموع الجافة اليابسة تفتت ادران الهجرة ..

وها هو ايلول بورقه الاصفر يبصم باعمارهم ..

وها هو التراب يستعد لوليمته الدسمة ..

حيث الجوع يحيط بالجموع ، وحده التراب متخم باللحم الطري ..

لا يجدي الكلام ..

لا يفيد العزاء ..

لا تقلل عبارات المواساة من هول الفاجعة ..

ولا تخفف قصائد الرثاء من وجع المصيبة ..

اللوحة مطرزة بالموت ..

وليس صحيحا ان الوجع يبدأ كبيرًا ثم يصغر ..

بل إنه يبدأ كبيرًا ، ويظلّ يكبر ..

نعيم شقير – ” في وداع ركاب رحلة الموت على متن قارب ابحر على متنه 150 نجا منهم اقل من 20 ”

رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=13836