الجسد من التّابوهات الجاثية في مخيال العربي، يشتهيه ويشتمه ويعتبره مصدر خطيئة

صيْحة امرأة مذعورة كفأرة أمام فكّيْ قط متنمّر، أو لطمة مفاجئة بأنامل مرتعشة على خدّ ذئب ببدلة باريسية أو دجينز، لايهمّ كلاهما مُهَيَّأ للتّحوّل السريع من انسان رصين إلى حيوان في دورة.شراهته الجنْسيّة!
تحرّشٌ متحذلق!
تحرّشٌ ملفوف بقفازات الحذلقة والنعومة المخادعة!
تحرّش مكشوف بلا مقدّمات كنهش في اللحم الحيّ، سيّان!
الأوّل يُطبخ على نار هادئة يبدأ بوضع المصيدة وترقّب الفريسة ولايهم الوقت، المزيد الصّبر حتّى تلين وتأتي، سياسة ماكرة في التّحرّش يتقنها المثقفون.
أما الثاني فتحرّش لا يطيق الصّبر، شكل من الانقضاض على الفريسة، احتكاك والتصاق سرعان ما ينتهي بصفعة على الوجه أو تفضيل للصمْت والتحمّل خوفاً من الفضيحة.
الحافلات المكتظّة صندوق تحرّش لافت!
كمْ يد عبثت بشعْر منسدل، وكم من التحام متعمّد بظهْر أنثى تسامقت يدها للإمساك بسقف الحافلة حتى لا تسقط، فتفزعها لمسات خبيثة من خلف!
جسدٌ مستنفر الأعضاء وآخر منكمش يخفي أعضاءه خوفاً من الفتنة، أو الترفيع من درجة التّحرش، شكل من أشكال المراوغة أو التّمويه، تستعمله الحيوانات في الطبيعة للتّخفي وتفعله المرأة لمّا تقفل أزرار معطفها حتى لا تعبث بها عين ثاقبة، وتلف وجهها بتقاسيم رسمية حتى لا يقربها المتحرّشون، شكل من أشكال الدفاع الأنثوي الذي تستعمله المرأة كجدار صدّ، لا سيما في حافلات النهار ساعات الذروة، أو حافلات الليل ومتروهات الأنفاق.

لا تصدق أيها الانسان أنّك كائن عاقل محض، أنتَ كتلة عجيبة بذيل من الغرائز النّهمة، مشاعر متلاطمة ومتناقضة بعقلٍ، فلا تأتمن انقلاب الذّيل على الرأس فيجعلك حيوانيّا تماما كما تكون عقلانيا في مواضع أخرى، هنا يسكن التحرّش في الانسان ينطّ ويخمد كلّما تحرّك الذّيل أكثر ككلب يبصْبص لأنثاه.
قالت لي صديقة وهي ضاحكة: غريب أمر الرّجال في حافلات الليل، تحْمرُّ عيونهم وتصبح أكثر افتراساً لأجسادنا المذعوة منهم!
قلتُ لها: لا تبالغي كثيراً، خوفك الزّائد على حدّه يجعلك ترينهم بعد الثامنة ليلاً ذئاباً عاوية، متربّصة!
وغرقنا في الضّحك سويّاً.
يبدو التّحرّش عند البعض بطولةً، نوعاً من الإستفزاز الذكوريّ للأنثى المُتدلّية ثمارها: لابدّ أن تقع في فخاخه لينْعم بأشجار الشّهوة النّابتة على جسدها، هكذا يري الذّكر الأنثى بعيْن مرْشوقة في تفاصيلها، مهما تكلّمت يبقى بصره الموّزعُ عليها هو السّائد والمحرّك. غالباً ما تُشيح الأنثى ببصرها إمّا خجلاً أو تجاهلًا لوقاحة. ذكَرٌ يتحسّس جسدها بعيْن وقحة، يُعرّيها من دون يد . شكلٌ من التّحرش الصّامت من دون خسائر مادّية هو الشكل الأكثر شيوعاً في مجتمعاتنا العربيّة التي ترزح، رغم ما تلفّ به نفسها من صور الحداثة، تحت جبال من العقد والمشاعر المتناقضة حول الجسد.
فالجسد من التّابوهات الجاثية في مخيال العربيّ: يشتهيه وفي الآن نفسه يشتمه ويعتبره مصدر خطيئة: تناقض متوتّر ومربك أرجئت المصالحة معه رغم الانغماس الطويل في منتجات الحضارة الغربيّة وأدبيّات التّحرر. تكفي امرأة تتعرّض للتحرّش ليْلاً، عوض مناصرتها بسلطة القانون وحماية حرّيتها، أنْ تُنصب لها المحاكم لتؤنّبها على خروجها ليلا!
إنه مجتمعٌ يُبرّر التحرّش عقاباً للمرأة التي تمارس حرّيتها! ويطلق عليها نعوتاً ساقطة، أقصاها مساواة الحرّية بالفُجور: لايحق للأنثى أنْ تذهب بعيداً في تحرّرها. أمّا الرّجل فلاضير إنْ هو داس عليْها. فالأعراف والعادات البالية تنط فجأة من تجاويف العقل وتُحوّلها الى فتنة كان عليْها أن تُخفيها حتّى لا يصيبها ما أصابها.

هذا الحيْف الذي يمارسه المجتمع رغم سلطة القانون هو المسكوت عنه الذي يجعل التحرّش في أحد صوره عقاباً تشرّعه الجماعة كنوع من الترهيب يُمارس على المرأة التي تجاوزت الحدود المسموح بها.
كمْ من مرّة اعترضتني مشادّة في الطريق العام بين شابّة محتجّة على سلوك مشين من شابّ مرّ بجانبها متحرّشاً بينما تصطف غالبيّة الشهود بتعاليقهم مع الشّاب ليَصِفوا الشابّة بسلاطة اللسان أو لينتقدوا ارتداءها فستاناً قصيراً!
مبرّرٌ كاف لليّ ذراعها ونصب المشانق ولو برياء المدافعين عن الفضيلة!