مجلةالنجوم سيدني -من وحي كتاب “Mediocratie” (نظام التفاهة)
مشهديات من الوباء الثقافي لدينا!*
بقلم الدكتور مصطفى الحلوة رئيس الاتحاد الفلسفي العربي
الدكتور مصطفى الحلوة في العام 2015، أصدر الفيلسوف الكندي المعاصر Alain Deneaut (مولود في اوتاواه 1970) كتابًا، ذاع صيته في أرجاء العالم، واعتُبِر في عِداد أبرز الكُتب التي أثارت جدلًا، بدءًا من منتصف العقد الثاني من القرن الأول من الألفيّة الثالثة!
هذا الكتاب، جاء بعنوان Médiocratie، أي نظام التفاهة. وقد نقلته إلى العربية الكاتبة الكويتية مشاعل المهاجري، وصدر عن دار سؤال للنشر، بيروت، عام 2000.
لقد كان للمكتبة العربية أن تحتفي بهذا المؤلَّف، كونه يعكس بعضًا من أزمات عصرنا الراهن.
في “فوكسةٍ” على الفكرة المحورية للكتاب، يتحصّل أنّ ثمة “غزوًا للبلهاء”، بحسب تعبير الفيلسوف الايطاليUmberto Éco ، يصعب على العقلاء مقاومته ! وفي ترجمة للمسألة، نرى طوفانًا من المحتوى الموبوء، يُغرق وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات. فمليارات من الثواني تُبثُّ، مُثقلةً بالتفاهة، مع إغتباط ذاتي شديد، من لدُن الوالغين في خضمّها!
ولعل الأشدّ خطورة أن هذه الموجات من التفاهة جرفت معها، بحسبDeneaut ، ضحاياها من مثقفين وأكاديميين، صغُرت عقولهم، وباتوا ينافسون الحمقى والمعاتيه (جمع معتوه) على تلك المنصّات، ويحشرون أنوفهم معهم، بُغية التباهي بالذات، أو الاستعراض الأبله الاستهلاكي. بل والزهو الأحمق بالذات، وَسْطَ مبرّرات مشوّهة ومزوّرة! ومن تجلّيات هذه المُناخات الأشدّ خطورة، كما يرى الكاتب، أنّ التفاهة لم تعُدْ مجرد سوق، لها نظامها وأسعارها، وطرق التداول فيها، وإنّما تحمل معها قيمًا جديدة، تتعلّق بالأخلاق والمُثُل والعادات وأساليب العيش.
هكذا، والحال هذه، يخلصDeneaut إلى أنّ التفاهة غدت نظامًا كاملًا ،على مستوى العالم، مما جعلنا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلّق بسيادة نظام، أدّى تدريجيًا إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة. جرّاء ذلك، بتنا نلحظ صعودًا غريبًا لقواعد، تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين، بحيث تدهورت متطلبات الجودة العالية، وغُيّب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطّة، وأُبعِدَ الأكفياء، وخلت الساحة من التحدّيات، فتسيّدت، إثر ذلك، شريحة كاملة من التافهين والجاهلين، ذوي البساطة الفكرية!
وإذْ “يحكُّ” هذا المؤلَّف على أوضاعنا كافة، من سياسية وإقتصادية واجتماعية وثقافية، بل يضعُ الاصبع على جراحنا النازفة، في المجالات المذكورة، فإننا، من منطلق إنهمامنا بالفكر والثقافة، سوف نستعرض بعضًا من مشهدياتنا الثقافية، التي تغوص في أوحال التفاهة، بما يمنح الكتاب المذكور صُدقيةً عالية، ويسِمُه ببُعدٍ شمولي عالمي، فتغدو بلاد العالم كلها في الانحدار سواء!
هو زمن الإسفاف الفكري ما نشهد، زَمَن الخواء والسقوط المريع، حيث اليدُ الطُولى لثقافة الفساد والافساد! ومما يلفت النظر أننا بتنا اليوم أمام ظاهرة مَرَضِيّة مستفحلة، إذْ نشهد، على صفحات التواصل الاجتماعي، حضورًا لدفقٍ من منتديات أدبيّة وأُطُر ثقافية، ومرجعيات شتّى، دأبت على منح شهادات تقدير، بل “كراتين” ملوّنة مزخرفة، لمئات من المتشاعرين (أدعياء الشعر) والمتكاتبين (منتحلي صفة كاتب) والمتثاقفين (معتدين على الثقافة)! كما يلفتنا، وبما يبعث على التقزّز، أنّ المُنعم عليهم بالألقاب الفضفاضة والتوصيفات المنمّطة يُفاخرون بهذه “الشهادات”، فيزفّون الخبر السعيد، عبر صفحاتهم الإلكترونية، فتنهال عليهم التهاني وعظيم الثناء (Likes +comments)، من كل فجّ عميق، من قِبل من هم من ” بضاعتهم” وعلى “شاكلتهم”. بل من المنافقين، مبيّضي الوجوه !.. إشارة إلى أنّ هؤلاء المهنئين، على خلاف مواقعهم وأطيافهم، ما كانوا ليستمطروا مباركاتهم لولا طمعهم باستدرار “لايكات” و”تعليقات” مقابلة، عندما يحين دورهم، وذلك من منطلق هذه المعادلة “من رآك بِ لايك، عليك أن تراه بِ لايكين!” مُقايسةً على القول الشعبي المتداول: “يلّي بيشوفك بعين شوفو بعينتين!”
وفي مشهدية أخرى من هذه الفضائح المتمادية، نرى جهات “مانحة”، تُوزّع الألقاب، يمنةً ويسرةً، مُعيدةً إيّانا إلى زمن السلطنة العثمانية، حيث كانت الألقاب تُباع وتُشترى، وتُوزّع على الأعيان والوجهاء والاقطاعيين.
وفي استعراض لنماذج من الالقاب الممنوحة، فهذا يُقطَع لقب “سفير السلام”، وذاك لقب “سفير الكلمة الحرّة” وآخر “سفير المحبة والتسامح”، ناهيك عن منح دكتوراه فخرية. ويحضرنا، في هذا المجال، قول أحد شعراء الاندلس: “ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها/كالهرّ يحكي انتفاخًا صولة الأسد!”
عن هذه الظاهرة المرضيّة، في مجتمعاتنا العربية الشرقية، وتعليلها، يذهب …الأديب الراحل بولس سلامة إلى القول:”.. ويظهر أن الألقاب الضخمة، في الشرق، تستهوي طبقات الأمة جميعًا، وفي جملتهم الشعراء. فإذا لم يأتهم اللقب هدية ، يخلعها عليهم صحفي أو زميل كريم، ينتظر المقابلة بالمثل، سعوا بأنفسهم إلى اللقب ، فهمسوه في أذن من يُذيعه في الناس ، ثم تتداوله الألسن، حتى يكاد يُدوّن في أوراق هُويّتهم .وهكذا يصبح حقًا مُكتسبًا ، يصعب إنتزاعه بغير قوة السلاح !”(حديث العشيّة، ص 308/بولس سلامة)
هذا المقطع اقتطفناه، من كتاب صدر خمسينيات القرن الماضي، حيث كان لهذه الظاهرة، ظاهرة الألقاب، حضور، فما قولنا في ظل كتاب “نظام التفاهة”، الذي يُعرّي الظاهرة، التي تمدّ أذرعها، في أربع جهات المعمورة؟!
في تظهير للمخاطر الوجودية، التي تختزنها أطروحة التفاهة، يَخلص الكاتب الاسبانيCarlos Ruiz Zafon إلى القول:” لن يفنى العالم بسبب قنبلة نووية، كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة، التي ستحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة!”
…قد يقول قائل إن العالم قطع أشواطًا بعيدة في مجالات التقدّم، مما أفضى إلى إنجازات هائلة، في مختلف الميادين، ولكن ما نفع هذه الانجازات، مع انهيار عالم القيم ومنظوماته وانجراف البشرية في ثقافة التفاهة القاتلة؟ وفي هذا المقام نردّد مع السيد المسيح:” ماذا ينتفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه!”
———–
* مُقتطف من كتاب لي سيصدر قريبًا، عنوانه: “من بيادر الكتابة الإبداعية والأدب الفلسفي/ مبدعون على دروب الفكر العربي المعاصر”الدكتور مصطفى الحلوة
الدكتور مصطفى الحلوة
حائز إجازة في الأدب العربي وإجازة في الفلسفة وإجازة في الحقوق (الجامعة اللبنانية)، إلى دكتوراه في الفلسفة، من جامعة ليون، جان مولان وقد بدأ مُساعداً قضائياً، في ملاك وزارة العدل (لمدة ست سنوات ونصف). في مجال القانون،ومن ثمَّ انتقل إلى ملاك التعليم الثانوي الرسمي، أستاذاً لمادة الأدب العربي، وليحطّ الرحال، في مشواره المهني، أستاذاً للفلسفة في الجامعة اللبنانية (الفرع الثالث – طرابلس)، وأستاذاً لعلم السياسة، في معهد العلوم الاجتماعية (الفرع الثالث – طرابلس) ورئيس الاتحاد الفلسفي العربي
رابط مختصر… https://anoujoum.com.au/?p=6743