بقلم رئيس التحرير / وديع شامخ
لم تكن صناعة الأدب شعراً وسرداً والفن بمختلف ضروبه بمنأى عن الإملاءات طالما كان مبدعوها في حومة السلاطين أو في زحمة الأسواق واشتراطاتها ، وحين نبحث عن الإبداع فلابد لنا من فحص مجسات السلطة وحساسية حروف وأدوات التعبير الأخرى لمبدعيها.
والأخزى في الأمر أن نُحمّل المبدع مسؤولية القيام بواجب الراوية الأمين لتاريخ عصره ، مجردينه من حدوسه وأفكاره الخاصة وكأنه لقطة كاميرا مُحنطة للحظة تاريخية ما.
هذا الدور الهزيل سوف يجعل مقولة الأديب والمبدع عموما مرآة لعصره مقولة ذهبية ومقدمة لجدار عازل وقفص ذهبي للمبدع مع مجتمعه.
فالعلاقة بين المبدع وعمله تتعالق بجملة من الوشائج تبدأ بفكرة في عقل المبدع ، يساهم في صياغتها أو صحوتها مؤثر بيئي واقعي أو متخيل أو ربما سؤال عابر أو لحظة سكون أمام الطبيعة بعمقها وغموضها معا ، ولا ندري إن كان المثير تجربة أخرى يتمثلها المبدع وفقا لمرجعياته ورؤاه ، هذا من ناحية الأفق السري لمراحل انتاج العمل الإبداعي ، وحتى يصل المبدع إلى خواتيم الإنجاز وبثه لفضاء الاتصال فثمة مؤثرات خارجية ستدخل على الأثر بعضها يتعارض مع العالم السري للإبداع اثرا ومبدعا.
……..
العلاقة الثنائية التي كانت تدور حول الأثر وعمقه وإشراقات روح المبدع وانتمائه لعمله إلى مستوى آخر من المعنى والمغزى والهدف والغاية والوسيلة تتحول الى مدار آخر.
سوف يخرج العمل من مشغله الروحي لسوق التلقي ، التلقي بالمستوى الأول هو السلطة ، السلطان ، الصولجان ، المزاج ،
وهنا يبدأ محرار القياس لتلائم حساسية المبدع مع سوق الصرف والوصايا النافذة كشريعة حياة، فحص مختبري خارج حدود الحقل وأصول اللعب السرية ، فلابد لصانع الأثر أن يكون هنا في مفترق طرق بين الحرية والوصايا.
ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً إذا كان صاحب الأثر من ذوي السوابق الجنائية بالمفهموم السلطوي للإختراق ، فبيت الطاعة لا يحتمل للوحة فنية ان تتجاوز أُطُرَها ، ولا لشعر إلا أن يكون لدغدغة عواطفها ، ولا لمسرح إلا للتصويت على جمال أصفاده ….الخ
بيت الطاعة يقتضي عهراً وميوعة وربما تصحراً وغربة ، كل هذا يتم مع المنجز بعد إطلاقه من المختبر الشخصي ووشائجه الخاصة.
……..
المبدع يدخل في نفق آخر لا علاقة لعمله به ، نفق التخريج الرسمي لفك شفرات الأثر بطريقة استعلائية تحقيقية ، وكأن العمل مدان حتى تثبت حسن نوايا صانعه ، ومشغل كهذا يحتله نخبة من محترفي التسقيط في بيت الطاعة ، ومن المفارقات أن يكون الأثر وحيداً أمام هيئة المحكمة التي تساوم المنتج أو تدينه ، ومن منصة محاكم التفتيش سيخرج الحكم ببراءة الصانع وتهشيم الأثر أم بإدانة الصانع وتمجيد العمل وتحويره لغايات تشوه الصانع.
بعد انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 في العراق ، صوّب البعثيون في العراق بنادقهم نحو جواد سليم ليغتالو نصب الحرية ، وازاحو حمامات جدارية فايق حسن في أكبر وأشهر ساحات بغداد ، ولأعظم فنانين أحدهما مات قبل أن يرى هذه الجريمة وآخر تواصل في استمراء الألم وتحويله إلى جياد نافرة.
……..
التأويل في بيت الطاعة لا يخضع لمخاض المبدع ولا إلى عالمه الجواني ، لا ينتصت الى آليات العملية الابداعية وحرية العاملين بحقلها، فهناك محرار زئبقي لا مزاج له ولا ضابط ، فكيف الوصول بالعمل – الأثر – النص ، إلى بر الذائقة والتأويل الحر ؟
لا وجود لوصفة خالصة بل هي معركة غائرة المجسات والجذور ، تصل إلى مرحلة السلاح الأبيض للدفاع عن الأثر ، المبدع الحقيقي يعرف حجم خساراته وصدى صراخه ، يلوذ بموته أول الغيث ، ولكنه يقاوم تجريم العمل بالتأويل ، يلجأ للغة، للحجر ، للصورة ، للصوت، للعويل ، وعندما يعجز المبدع الصمود سيكون موته البايولوجي أثرا مضافا لمعنى وقيمة الأثر.
الإخلاص للأثر يقينا من شر المحاكم ونهاية الجسد الفاني ، لأن عنوان المبدع بآثاره وليس بجسده ، وبيت الطاعة معنيّ بإقصاء الجسد وهذا دفاع مهم لخلود المبدع وأثره.
……..
تطبيقات
صُلب الحلاج ولم تنته دورة الطواسين ، تكرّش هارون الرشيد موتا والغيمة قائمة في سمائها ،
مات نيتشه ولم يمت الله ، مات هتلر وعاشت المانيا ، مات ستالين ولم يمت الشعر المستقبلي في روسيا ،
وووووووو، مات صدام وبقيت الحفرة ماثلة كأثر.
بيت الطاعة يعني موتا أحادياً، والآثر يبحر في محيطات الحلم ، الصانع حيا أم ميتا لا يبيت فيه.