وديع شامخ
يبدو للكثيرين أن صناعة الفرح مهمة عسيرة بل مستحيلة أحيانا لما لفطرة الانسان عموما و الشرقي خصوصا على ملازمة الألم والمأساة ، عبر تأريخه الطويل سواء مع الحكام او المجتمعات و حتى الطبيعة ، القحط الداخلي والخارجي وهما سمتان ماثلتان على حياتنا ، إذ لا مصادر وفيرة لكي يفرح الأنسان ، ربما يتحدد الفرح بالهام إلهي كما ُيظن أو اطمئنان قلبي ، وهو صحيح الى حد كبير، ولكن الفرح الروحي فيض جواني له حقله وله قلبه وشرايينه ، و الفرح صناعة أيضا ، وللكائن البشري دور مركزي في المفصل الحيوي لادامة زخم الحياة ببعدها التنويري الناصع
…………………..
للفرح أهله ومناخه وصانعيه ومتلقيه أيضا ، الفرح صنو الأرواح الكبيرة ، والأمزجة الحالمة بغد سعيد يليق بالانسان والطبيعة ، الفرح صنو النشاط والاجتهاد والركض في مروج الحياة الخضراء ، وهو أكسير الحياة ومادة لديموتها .
وهو قرار شجاع وجرىء معا ، لأن إشاعة الفرح في مجتمعات مكلومة ، حزينة ، يهيمن عليها صانعو الحزن والقنوط ، ويتحكم في صمامها أناس وعقائد وطقوس لا هدف لها سوى نشر الحزن وجلد الذات ، وإشاعة ثقافة الحزن بوصفها حالة عمق وتماهٍ مع جوهر الانسان المنتمي فعلاً لهكذا حياة كما يزعمون .
…………………..
ولعل الثقافة الشعبية تُعد أحد المهيمنات على تهيئة الإنسان ليكون وعاءً لتقبل مدخلات القيم والأمثال الشعبية ، لصياغته كآنية خزفية وبيئة مناسبة لزراعة هذه البذور ، ومنها أن الضحك بلا سبب من قلة الأدب ، وإن ابتسامة المرأة عورة وأثم ، وهناك قاموس كامل للحشمة والتجهم لمقارعة الميوعة والغنج ، وبهذه الثقافة الشعبية سيكون الإنسان في بيئة الفزع والحزن قابل تماما لتمثل وإنتاج وتصدير الحزن والقنوط بهمة عالية .
…………………..
ومن مفاتيح الفرح الفنون والآداب والفلسفة والعمارة ، وكل ما تنتجه قرائح ومواهب الانسان الحرة لتصبغ الحياة في أبعاد روحية عالية الهمة ، لتعيد للإنسان مركزيته في هذا الكون اللامحدود في سبله للعيش والمنفتح على الحياة بطرائق شتى ، لا تحدّها وظيفة ولا يوقفها قانون ، ولا تستوعبها شريعة ولا ملّة ولا خاصرة .
…………………..
لكن مشعلي الحرائق في غابة الإنسان يتتبعون مصادر الفرح وسر صناعته والقائمين عليه ، فيصدرون فرامانات دينية وفتوى عقائدية واحكام قيمية ، لحجر منابع الفرح ووأد الروح البشرية التي تأهلت لحمل رسالة فرح .
فالغناء حرام ، والآداب لهو وغي ، والفلسفة من أعمال الشيطان، والعمارة والنحت أصنام يراد بها الشرك بالله الواحد ، والموسيقى مجلبة للفقر والهوان وملهية عن ذكر الرحمن ، وهكذا يتواشج العرف والدين في لحظة حرجة من تاريخ الشعوب ، وفي مرحلة غياب الدولة المدنية والقانون ، سيكون قانون الحزن والقنوط هما السائدان ، وسيكون لخفافيش الظلام دور الريادة في نكوص الروح الانسانية الباسلة .
…………………..
ولعل من أخطر اللحظات على حياة الإنسان هي غياب الروح الفاعلة ، غياب الروح المبادرة ، الصانعة والفاعلة ، والانزواء في لعبة القطيع ، الرضوخ لصوت مبحوح ومشوش ، دخان أسود من مقابر قديمة ، الركض وراء ذئاب الغابة ، اللهاث الأعمى لصرعات مسمومة ومدافة برعب كوني شامل ، مع هكذا كوابيس لا يصح للإنسان أن يكون في موقع اتخاذ قراره ، ولا بمقدوره أن يميز بين الفرح والحزن ، هو في منزلة لا ترتقى إلا للتلقي السلبي لمفهوم الحياة ، وسيكون مهزوما تماما، أما دعوات القنوط والحزن والانغمار في حياة مقننّة وصولاً الى العيش في قفص المحضور الدائم .
…………………..
ولايقتصر أمر شيوع القنوط والفردية واليأس على ما ذكرناه ، فلقد يمثل التاريخ ونماذجه خير معين لكل الفرقاء للاستعانة به لبث هذه الروح السلبية ، ولعل رجوع الإنسان الى حظائر التاريخ دون وعي نقدي ، هو الطامة الكبرى ، سيكون منشدا في جوقة ، خروفا في قطيع ، سواد على لافتة الضحايا ، سوطا على الشفاه ، سيفا على الرقاب ، وهكذا يُصادر الفرح من حياة الانسان لأنه دالة على نشاطه الروحي وخياره الفكري في انحيازه لمكامن الجمال في الانسان والطبيعة معا ليكون مرتهنا بسلاسل السواد والحزن واللاأدرية ولكل ما يتلاءم مع عقل غائب وجسد ذائب وروح لا تجيد العزف على أوتارها .