مجلة النجوم – سيدني

عندما يبكي الرخام يصبح كثير الطراوة والليونة… وعذب الكلام

منى السعودي .. يوم يتم جديد يحلّ في بيروت اليتيمة أصلًا

بقلم الكاتب نعيم شقير

منى السعودي (عمان 1945- بيروت 2022) ، نشأت قرب موقع أثري روماني، وتعرفت هناك على سحر ما يمكن أن يفعل الزمن بالحجر، وما تستطيع أن تفعل يد الإنسان حين تحسن التعاطي معه…

الحجر بكى منذ قليل أصابع عزفت عبره أجمل المقطوعات، الحجر مشى في وداع عازفة الصخر، ومعه مشت الصخور الدامعة والحجارة اليتيمة والقصائد الجريحة واللوحات التي ارتدت ثوب الحداد…

ماتت صاحبة الألقاب الكثيرة منى السعودي… النحاتة، والرسامة، والشاعرة، وتركت لنا إرثا يعتبر كنزًا من المنحوتات، تنقل بين عواصم عديدة في العالم.

في وصفها تتساقط من القاموس كلمات المحبة والمألوفة والصداقة، ورفيقة الشعراء، والمرأة التي وجدت في قسوة الحجر مادتها الفضلى للتعبير عن الذات، فلم تعد نحاتة امرأة فقط بين قلة من النساء، بل صارت واحدة من أكبر النحاتين العرب، وتفوقت على الكثير من الرجال في مجالها…

يوم يتم جديد، حلَّ في بيروت الحزينة أصلًا، واليتيمة من قبل، والباكية منذ عقود.، حل خبر رحيل رائدة النحت والشعر والكتابة منى السعودي، تاركة وراءها مدينة مجروحة بالغياب في صميم كبريائها.

اجتمع محبوها في دار الوردية في بثروتها التي أحبت، ليعزوا أنفسهم، بالفنانة التي سيغادر جثمانها بيروت إلى عمان مسقط رأسها برفقة ابنتها ضياء، حيث توارى الثرى في وطنها.

هي التي عاشت الانكسارات الحادة في حياتها، أول هذه الانكسارات هزيمة حزيران 1967 وثانيها ليالي بيروت الحزينة، العاصمة التي اعتبرتها وطنها الثاني، ويعتقد كثير أن بيروت كانت وطنها الأول.

هكذا يتذكر الشاعر الراحل أنسى الحاج منى السعودي:

أرسلت مجموعة من القصائد إلى بريد مجلة شعر، وكانت منها هذه القصيدة (المدينة عمياء/ ورؤاي تتوالد في الشوارع/ في فوضى الأشياء في متاهات اليقظة/ أسمع أصوات الصمت/ وارتخاء الزمن والبحر، وارتخاء الليل/ أتدفأ بالأرصفة الباكية، حيث يحضر الوجود فجأة/ محمولًا على الشمس)…

صاحبة هذه الكلمات، ذات الشعر المجعد الذي يكلل رأسها، وصاحبة النظرة الحادة والعميقة، اقتحمت احتفال مجلة شعر في بيروت الستينيات، أيام عزها، من دون أن تكون مدعوة إليه، توجهت باعتداد إلى الشعراء أنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال، وعرّفت بنفسها كما لو أنها شاعرة من ذات القماشة…

وهكذا، بدأت صداقة جمعت بين مراهقة وشعراء كبار استمرت عمراً، وتعمقت الصداقة بين المراهقة والشعراء، وحين أبلغتهم بكثير من الثقة بالنفس، أنها ستذهب إلى باريس، وستصير هناك فنانة كبيرة.

وصلت إلى بيروت وكانت في السادسة عشرة من العمر، هاربة من عمان، وأمضت يومها الأول تتسكع في شوارع المدينة الذائعة الصيت، وانتهى يومها في فندق متواضع للشباب في كورنيش المزرعة.

لماذا كانت هاربة من أهلها؟

ببساطة لأن أهلها كانوا من المحافظين والمتدينين من آل السعودي، جاؤوا من الحجاز في العشرينيات واستقر بهم الطريق في عمان حيث عاشوا في محيط المدرج الروماني.

كانت تستعير الكتب من المركز الثقافي البريطاني، وأرادت أن تدرس الفن الذي تعرفت إليه من خلال هذه الكتب، في باريس، حيث لا تلزم شهادة ثانوية للالتحاق بكلية الفنون الجميلة.

لدى إتمامها سن الرشد (18 سنة) أقامت معرضها الأول في مقهى الصحافة في الحمراء، بمساعدة صديقها الفنان الراحل بول غيراغوسيان، ومن ريع هذا المعرض ومبيع أعمالها، اشترت تذكرة سفر الى باريس بالباخرة في رحلة استمرت سبعة أيام لتصل إلى عاصمة النور باريس.

أول لقاء لها مع باريس كان في شباط 1964، وتمكنت من خلال صديقها الرسام والنحات حليم جرداق، الذي تعرفت اليه في بيروت، من ان تتسجل في مدرسة الفنون الجميلة، وان تقيم في فندق رخيص تلقف رسوماتها ولوحاتها وحفر في ذاكرتها محطات لا تنتسى…

بدأت دراستها من النحت، وتعددت اللقاءات مع الاصدقاء الذين كانوا يجتمعون في حجرتها ويتحدثون في الفن والنحت والثقافة، ولم تغب السياسة عن حواراتهم. وكان الاصدقاء من لبنان كلما زاروا باريس، يلتقون في صالونها الادبي، الذي وصفه انسي الحاج بالحجرة الثقافية.

ولدى وقوع ثورة ايار 1968 كانت منى السعودي في طليعة المشاركين، واستطاعت هذه الثورة التي لم تستمر اكثر من شهري ان تحفر في وجدان منى ووعيها الثقافي والاجتماعي.

ثورة باريس الطلابية، دفعتها الى الثورة التي تخصها، فقررت العودة من باريس الى عمان، ومن هناك الى المخيمات الفلسطينية حيث اتجهت الى اطفال المخيمات في تجربة فنية اثمرت كتابا بعنوان (شهادة الاطفال في زمن الحرب) قررت ان تطبعه في بيروت، التي كانت في ذلك الحين مطبعة العرب، وظلت فيها لما كانت بيروت تتمتع بفصل زائد عن الفصول الأربعة هو فصل الحرية…

حجارتها المفضلة .. جواهر ثمينة .. تعلقت منى بخامات أحبتها كثيرا من الحجارة حتى بدت في كثير من الاحيان كأنها جواهرها الثمينة، احبت الرخام الايطالي أو الجنوب أميركي، الديوريت الأسود، المرمر والعقيق اليماني، الحجر الاصفر اللبناني، الحجر الجيري الوردي واليشم الاردنيان، حجر الترافرتين الايراني، والغرانيت الزمردي الأفريقي.

أعمال كثيرة تحمل اسم منى السعودي اشتهرت بها، ومنها (هندسة الروح) المنحوتة التي تقف أمام معهد العالم العربي في باريس، و (ولادة بيروت) من الرخام الأبيض، و (نشوء)، و (شجرة الحياة) ومنحوتة (أم/ أرض) التي أنجزها عام 1969، وسلسلة (بذرة) عام 2007، و دار الوردية البيروتي ، والبوابة الصفراء والحديقة.

في بيت تقليدي لبناني الطابع والهوية، اختارت منى السعودي حي الوردية، واقامت في بيت له بوابة صفراء وحديقة متواضعة تضج بالنباتات والتماثيل…

في هذا البيت، عاشت منى السعودي سنوات الحرب في لبنان، وانغمست في النحت، وامتدت إلى الرسوم السياسية التي كانت موضوعاتها تتناول الحرب الأهلية والقضية الفلسطينية، وفي العام 1979 رسمت لوحة لدعم أطفال المخيمات أسمتها “الأرض تلد أطفالها”…

بدأت صداقة مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش عبر المراسلات، وعندما علمت أنه غادر فلسطين للدراسة في موسكو عام 1970، أرسلت إليه رسمًا يتضمن بعض من سطور قصيدته يوميات جرح فلسطيني، وحين عاد إلى بيروت التقت به وتعرفت عليه وصار درويش وأدونيس وبعض الأصدقاء يلتقون في منزلها مرتين في الشهر بصورة منتظمة، وكانت هذه اللقاءات غاية في الجمال وزاخرة بالشعر والموسيقى والنقاشات ولم يغب صوت أم كلثوم عن الحضور.

استوحت السعودي من قصيدة أدونيس وقيم البتراء 12 رسمه مطبوعة على شاشات الحرير، كما استوحت من أشعار محمود درويش 7 شاشات بعناوين: قصيدة الأرض، تحية لمحمود درويش، شجرة العاشق وتلك صورتها وهذا العاشق…
إلى جانب رسوماتها المستلهمة من أعمال محمود درويش وأدونيس وسام جون بيرس، أصدرت السعودي ديواني شعر:
(رؤيا أولى) عام 1970 و (محيط الحلم) عام 1993، وكتاب (أربعون عاما في النحت) عام 2007…

ولعل أحلى ما وصفت به حياتها قولها في إحدى مقابلاتها بأن عمرها اقتصر على صداقة الحجر لأنه سفر إلى اللامرئي وجسد للشعر.

أما سمير صايغ فكتب عنها ما يوازي أكثر من وسام علقه على صدر الغياب… هذا الرخام الصلب والصامت الذي تركته منى السعودي أمام أبصارنا، كثير الطراوة والليونة وكثير الكلام، وتحت عنوان “هكذا حدثنا الرخام” كتب الصايغ:

كانت تنحته في أحلامها، ورافقها يوم جاءت من عمان إلى بيروت لتولد ولادتها الثانية في حداثة وثورة بيروت الستينيات في الشعر الحديث والفن التشكيلي رسمًا ونحتا، ورافقها إلى باريس ليدخل معها معاهدها الفنية ومحترفات فنانيها الكبار في الوقت الذي كان يصغي معها لهمسات من هنا وهناك، عن ثورة في الحب والعيش والحلم والفكر والفلسفة.

هزيمة الخامس من حزيران حملتها إلى مخيم البقعة لتبدأ مسيرتها مع أطفال المخيم، آلمتها الحرب الأهلية في لبنان، وآلمها استشهاد رفاق وأصدقاء وكتّاب وفنانين…

في صلابة وصمت هذا الرخام الذي تركته لنا منى السعودي، أمام أبصارنا شهادة عن كيف اجتمعت الهزائم بالانتصارات والآمال بالخيبات. هكذا يحدثنا الرخام كيف تحول إلى أمومة، إلى حنان، ترقّ أطرافه فيصير طَرِيًّا كالماء ناعمًا كالهواء.

حجر أنثوي يخبرنا عن عناق، عن انحناء، عن لطف، وحجر صلب يتحدث عن صبر وتأمل وحكمة.

حجران يحملان نفس الاسم والتوقيع منى السعودي…

رابط مختصر:  https://anoujoum.com.au/?p=12765