محمد خضير
كلما اشتدّت حرارة السطح، هبط السكان الى مساكنهم تحت الأرض، وأخذوا معهم سجيناً واحداً، يستبقونه رمزاً لماضٍ سياسيّ خانق عانوه، مع سجّانه الذي يرافقه دوماً. وربما وضعوا تاريخاً ثابتاً يذكرهم بيوم السجين السياسي، أسوة بأيام الأسبوع المتسلسلة في رموزها الأبدية.
في بداية صيفٍ لاهب، أعفِي المساجين جميعُهم من مدّة حبسهم، بمرسوم رئاسيّ، إلا هذا السجين الذي استُثنيَ من الحرية لأسباب واهية. أما رفيقه السجّان فقد ظنّ أنّ وظيفته ستنتهي حالما ترِدُ الرسالة التي تأمر بإطلاق سراح سجينهِ.
يطلّ السجّان على صاحبه، الذي اعتاد الزيارةَ الصباحية، ويقول بنبرة ثابتة: «الحقيقةُ يا أخي، إنّ رسالة العفو عنك، قد تتأخر هذا اليوم أيضا». لكن هذه النبرة تغيّرت مع مرورِ الأيام، ويأسِ الرفيقين من وصول رسالة العفو. صار السجّان يُلهي السجينَ، القابع في كهفٍ تحت الأرض، بأخبار الرسائل السرية التي كان يحملها أشخاص مُختارون لهذه المهمة عبر التاريخ: سرجون الأكدي الذي حملَ رسالة ملكهِ يورزبابا إلى حاكم كيش لوكال زاغيزي ليفاوضه، لكنه انحاز إليه وتحالف معه ضد ملكهِ، ثم استولى على عرش كيش بعد أن أسرَ زاغيزي وقتلَه. منذئذ والرسائل تحمل نُذُراً مخيفة في طياتها، كرسالة زوجة أحد القادة اليونانيين إلى زوجها في ميدان الحرب تحضّه على قتل الجندي الذي أبى الاستجابةَ لرغباتها: «أتعلمُ يا صاحبي بأمر هذه الرسالة، التي جاء خبرها في ألياذة هوميروس؟ إنها وشاية كاذبة تجد أصلَها في قصة يوسف مع زليخا».
لا يردّ السجينُ على محاورات السجّان الموكل بحراسته، في وقت مبكر من كلّ صباح، يحمل إليه فطورَه، ويحدّثه عن رسائل مشابهة وردَ ذكرها في الألياذة والكتب القديمة، ونسجَ المؤلفون المعاصرون على منوالها: «أتعلمُ بقصة الجندي الروسي ميشيل ستروكوف الذي حلقَ قادتُه له رأسه ثم كتبوا على جِلدة رأسه رسالةً مشفّرة ينقلها عبر خطوط الأعداء إلى خط جبهتهم الأمامية؟ سجنوه مدّةً في زنزانة ثم له بنقل الرسالة بعد أن نما شعرُهُ وطالَ بالقدْر الذي يُخفي رموز الرسالة».
يصغي السجينُ بحواسه إلى حارسه السجّان، لكنه يتغافل عن الإشارات الرمزية التي يحتويها حديثه اليومي: «ربما كانت حكاية الجندي الذي نقل رسالةً من صدام حسين إلى آمر وحدته، يأمره بقتله، لسماعه تأنيب عشيرة الرئيس له في حضوره، لا أساس لها من الصحة. فقد تداولها الناس سراً كما تداولوا رواية جول فيرن عن الجندي ستروكوف. ولكن ما بالكَ بالقصة القديمة عن رسالة ملك الحيرة عمرو بن هند إلى عامله في البحرين، يأمره فيها بقتل حامليْها الشاعر طرَفة وخاله المتلمّس؟ أين الأصل في هذه الرسائل المتناقَلة سرّاً؟ لعلّ رسالتنا ستصل بطريقة مشابهة لإحدى هذه الطرق».
توالت الأيام، على السجين وحارسه، من دون تغيير. استسلمَ السكّان إلى طقسهم المناخي القاسي، ورموزهم المتداولة في السرّ والعلن
ونسُوا قصصَ الكهف الأرضي، الذي تعلوه قبّة بارزة على سطح الأرض الحارق، لا تُميَّز بين قببٍ كثيرة، معقودةٍ على بيوت السكان الأرضيين. وخلال ذلك كان السجين قد تلقّى الرسالةَ التي وعده الحارسُ بوصولها في يوم من الأيام، وأخفى أمرَها عن حارسه. كان شعاع الشمس، يسقط من كوّة في قبّة الكهف،
في وقتٍ محدّد من النهار، على كتابة محفورة على الجدار، ينتبه لها السجينُ ويحاول فكّ رموزها قبل انسحاب الشعاع واشتداد ظلمة الكهف. ويوماً بعد يوم، يكتشف السجينُ معنى رموز الكتابة التي تخفي طريقةً للفرار من سجن الكهف، لكن السجين الذي اعتاد انتظارَ سقوط شعاع الشمس على كتابة الجدار، يزهدُ في الحرية، ويختار مجاورةَ سطر الكتابة المشفّرة، وحديثَ سجّانه اليومي