#مجلة_النجوم_سيدني

بقلم الكاتب والشاعر اللبناني – نعيم شقير

مساءات كثيرة مرت لم تحمل لها سوى أكياس من الفاكهة كان يحملها ابنها كل مساء، ثم صار يرسلها كل ليلة حتى صارت مرة في الأسبوع…
كان كيس الفاكهة يفرحها لأنه من ابنها…
كانت تدمع حين تراه…
كانت تشم رائحة الفاكهة قبل تذوقها، تقول إنها من رائحة ابنها.
الكيس يضج بعطره والورق مخضبا بعرقه…
تريد أن يزورها كل مساء كما وعد…
لا ترده في موعد الزيارات، شأنها شأن كل المسنات…
تخجل من طلب اللقاء…
تخجل من البوح…
تخجل أن تقول لولدها اشتقت إليك…
أريد أن أضمك… أريد أن أشمك…
والابن يقفز من نجاح إلى نجاح…
وها هو يصيب فرحة لم يدركها من قبل…
ها هو يصبح أبًا للمرة الأولى في حياته…
لم تعرف أمه بالأمر…
لم تعرف إنه أنجب بنتا، وأنه سماها على اسم زوجته…
هو الذي كان يتمنى من الله أن يرزقه ببنت يسميها على اسم أمه، عرفانا بالجميل والشكر…
لم تكلف زوجته عناء زيارة أمه ولو لمرة واحدة…
* * *
العجوز كانت تبكي في وحدتها…
تبكي كلما مر يوم الزيارة فارغا…
كانت تستعد صبيحة يوم الزيارة…
تنهض قبل الفجر بقليل…
تستعد وهي في السرير…
تتحضر نَفْسِيًّا للقاء وحيدها…
غالبًا ما كانت تحلم به في ليلها المتقطع…
وكان الصباح يأتي على مهل…
يحمل الفرح إلى زوايا منكسرة…
يطير في مسافات محددة…
يرتطم بالجدران ويخر صريعًا…
الفرح يحتاج فضاءات ومساحات…
يحتاج حرية لا تقيدها السدود ولا الجدران…
يحتاج كما تحتاج الفراشات إلى قرص الشمس أو لهيب الانتظار…
لم تكن تحمل في متاعها أكثر من ثوب…
كانت تحافظ عليه ببريق عينيها…
لو عادت ماكينة الخياطة إليها، لخاطت لكل زميلاتها فساتين ومطرزات…
لقدمت لكل عجوز ما يليق برأسها الأبيض…
العجائز هناك كتل لحم وعظام وتجاعيد وأحاسيس…
علامات استفهام تهز الضمائر…
مكافآت ناقصة للقضاء والقدر…
أمهات يواجهن ضيق الحياة بعيدًا عن أولادهن…
وكان الأبناء يأتون لزيارة مسميهم … يحملون دموعهم وأكياس مجعلكة فيها طعاما ومرارة…
كانوا يقبلون أمهاتهم من وجناتهن وأياديهن…
واحد يقول لأمه “إذا كنت غير سعيدة فأنا على استعداد لأعادتك إلى المنزل”…
وآخر يقول “لا تؤاخذينني يا أمي أنت عارفة ألبير وغطاه”…
ويضيف ثالث “وحياتك يا غالية لو كان البيت يتسع لما تأخرت عنك”…
رابع يرجو أمه أن تسامحه على تصرفات زوجته…
وواحدة تقول لأمها “اعذريني يا أمي فزوجي لا يقبل بك لأني لم أقبل بأمه من قبل… ماتت أمه بعيداً عن بيته، فحرمني من رعايتك بعدل وإنصاف”…
أصواتهم هامسة…
كأنهم يخجلون من البوح…
كأنهم يخافون من الاعتراف…
والأمهات صامتات مثل الجبال… قانعات، قابلات، راضيات…
يحبسن دموعهن بابتسامة تقفل المقل…
وكانت الزيارة تنتهي قبل ان تبدأ… كانت الدموع تتفجر صافية… وكانت الوعود تتكدس فوق الوعود… وكانت الصلوات الى الله تتكاثر لتقريب النهاية…
* * *
أسرة متلاصقة حديدية باردة…
لا تعلق في جنباتها الضحكات ولا الذكريات…
تتسع لهموم كثيرة واحكام ظالمة لا تعرف العدل…
هنا رجل يخاف من زوجته، انصاع لرغبتها وأرسل أمه الى دار المسنين…
وذاك رجل سمع من زوجته انها لا تستطيع خدمة والده فأودى به الى هناك…
وثالث ورابع وعاشرة، لم يتأخروا في إيجاد الأسباب لارسال كبارهم الى دار المسنين…
والحقيقة ان دور المسنين مشكورة لاستقبالها الرؤوس البيضاء التي تخلى أصحاب الشأن عنها…
استقبلتهم بالمجان او بأثمان، فهي مشكورة…
لكنها تستطيع ان تقدم المأوى والطعام واحيانا الدواء…
ولا تستطع ان تقدم لهم الحب والحنان…
الكبار مثل الصغار يحتاجون للغنج والدلال…
يصبحون أصغر من الأطفال، تفرحهم لعبة وتبكيهم نظرة وتضحكهم اغنيات الحداء للاطفال…
الكبار يمتازون عن الصغار بالاحاسيس…
حساسون أكثر من صغارهم واحفادهم…
يتوجعون ويتألمون ولا تعذرهم تجاعيدهم…
بينما الأطفال تعذرهم طفولتهم على الدوام…
إذا خربوا او كسروا او حطموا… إذا وسخوا فهم معذورين بينما الكبار محرومين من هذه النعمة والاعذار…
يتألمون بصمت الأبواب الحديدية الباردة…
ما هكذا كانت آمالهم…
ما هكذا كانت احلامهم…
لو كانوا يعرفون نهايتهم لما جاؤوا…
لو كانوا يعرفون ان القدر سوف يرمي بهم الى السرير الأبيض لاعتذروا عن المجيء…
لكنهم صامتون، يوافقون الابناء، لا يملكون إلا الذاكرة الطرية…
فهي التي تحييهم وهي التي تدميهم…
يتذكرون كيف كان اولادهم، وكيف ربوهم كل شبر بندر…
كيف تعبوا الليالي حتى اصبحوا رجالًا ونساء…
وكيف ردوا لهم الجميل بإقامة مدفوعة في سرير أبيض يطل على قلق أسود…
**

يتبع

رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=15198