نهى الصراف

يواجه معظم الناس ضغوطات نفسية كبيرة في مجالات الحياة كافة، ولعل أهمها ما يتعلق بعملهم اليومي مع ما يرافقه من تزايد متطلبات المعيشة الكريمة وتراكم المسؤوليات المترتبة عليها، ما يجعل حتى من مشاكل العمل البسيطة شقاء لا يحتمل.  الدراسات النفسية الحديثة تؤكد على أن الإرهاق النفسي المرتبط بالعمل الشاق والمضني قد تترتب عليه مخاطر صحية جمة وهي تتساوى في ذلك مع تأثير التدخين السلبي؛ فانعدام الأمن الوظيفي وساعات العمل الطويلة من شأنها أن تتسبب في مخاطر على صحة الفرد وربما تؤدي إلى حدوث الوفاة المبكرة إذا لم يتم التعامل معها بحذر ووعي.
وأشارت إحدى هذه الدراسات التي رصدت تأثيرات الإجهاد في العمل، قام بها فريق من الباحثين في جامعة هارفارد، إلى أن عوامل معينة إذا ما توافرت في بيئة العمل يمكنها أن تتسبب في جملة من المشكلات الصحية ومنها، ازدياد عدد ساعات العمل، تغيير عدد نوبات العمل وأوقاتها ومدى تعارض هذه الأوقات مع طبيعة الحياة الأسرية للفرد، إضافة إلى مدى تبني مفاهيم العدالة الاجتماعية في بيئة العمل ومدى فاعلية القوانين التي تقدم الحماية الصحية والاجتماعية للعاملين.  كما وجد الباحثون بأن البطالة أو العمل قليل الأجور، قد يؤدي أيضاً إلى الإجهاد النفسي ويتساوى بمفعوله المدمّر على صحة الأفراد مع ساعات العمل الطويلة.
ولا يتعلق الأمر بالأعمال الشاقة فقط بل أن الإجهاد النفسي يمكنه أن يصيب الناس الذين يعشقون عملهم ويجدون في تحدياته والنجاحات المترتبة عليه، متعة لا تضاهيها أي من متع الحياة الأخرى، لكن الضغوطات هنا متأتية من صعوبة الوفاء بالالتزامات في أوقاتها المحددة أو شراسة المنافسة بين زملاء المهنة الواحدة.  ويمكن أن لا يجد المتخصصون أي ضرر في هذا النوع من الإجهاد الجسدي والنفسي إذا ما ارتبط بأوقات معينة أو مناسبات دورية تتطلبها دورة حياة العمل أو إذا ما كان محصلة عمل عام كامل أو في حالة عقد مواجهات دورية مع جهات منافسة، إلا أن الاجهاد حين يتخذ طابعاً مزمناً ومستمراً فإن ضرره قد يكون هائلاً على الصحة النفسية والجسدية للفرد، وللأسف فإن هذا النوع من الضغط النفسي المزمن للعمل هو الأكثر شيوعاً في مجتماعتنا، سواء أكان بدافع الرغبة في الاستئثار بالنجاح والتفوق أو بدافع الوفاء بالتزامات معيشية في خضم واقع مادي قاتم تتراكم أعبائه على الأفراد من محدودي الدخل بمرور الزمن.
ولسوء الحظ، فإن الضغوط المتعلقة بالعمل قد يمتد تأثيرها إلى المنزل فتلقي بظلالها على مفردات الحياة اليومية مع بقية أفراد الأسرة، أما تأثيراتها على الصحة في المدى القصير فتترجم إلى صداع، آلام حادة في المعدة، اضطرابات في النوم، مزاج انفعالي يميل إلى العدوانية وصعوبة في التركيز.  في حين، أن التوتر المزمن المتأتي من العمل قد يرّوج لمجموعة أخرى من العوارض المرضية خاصة النفسية ومنها؛ القلق، الأرق، ارتفاع في ضغط الدم وضعف في أداء الجهاز المناعي للجسم، كما يمكنه أن يكون عنصراً مساهماً بصورة غير مباشرة في سلسلة أخرى من الأمراض النفسية والجسدية مثل؛ الاكتئاب والسمنة وأمراض القلب المختلفة.
ومن المفارقات التي تدعو إلى الإحباط، هو تعامل بعض الناس مع الضغوطات ذاتها بطريقة غير واعية إذ تتصف ردود أفعالهم بأنها انفعالية وغير منطقية يكمن هدفها الرئيس في محاول تجاوز الأزمة النفسية بصورة مؤقتة من دون أي محاولة للبحث عن حلول بعيدة الأمد والتأثير، فقد يلجأ البعض للإفراط في تناول الطعام أو الإكثار من استهلاك الأطعمة غير الصحية وربما الإفراط في التدخين أو تناول الكحول والمخدرات، وهي عوامل فاعلة ومساهمة بصورة كبيرة في تحييد مقاومة الجسم وجعله هدفاً سائغاً في مرمى لأمراض لاعد لها ولا حصر.