#مجلة_النجوم_سيدني
بقلم الكاتبة ليلى تباني
جميل أن تكون أندلسيا بالوراثة ، والأجمل أن تكون بالاكتساب ، كن أندلسيا أومت و أنت تحاول….إذا ذكرنا الأندلس . تتعطّل لغة الكلام ، لأنّ الأمر ببساطة يتعلّق بالفردوس المفقود و المجد الضائع، بأشجان روح وترانيم جمال …الأندلس أجمل وجه أدارته الأرض يوما نحو الشمس . تاريخ حافل يمتد إلى قرابة سبعة قرون ونيّف ، سبع سنابل خضر تلتها أخر يابسات ، ليس بالهيّن أن تعبرها الصّفحات أو المجلّدات ، ولا باليسير أن تختصرها القصائد والكلمات .اعتدنا على الخوف حتى أصبحنا نخاف على كل شيء ، ومن أي شيء حتى أوقات سعادتنا نخشى عليها من النهاية ، هكذا علّمتنا نكبة الأندلس . هي رواية تحمل في طياتها ملامح السعادة والشقاء . تتسارع المشاعربشغفها القاطن سويداء القلب ، و تتبجس الروح بفيض مشاعرغريبة التأويل كي تشعربأنّ الأندلس ليست حدودا بلا ذاكرة بل هي ذاكرة بلا حدود كما وصفها البروفيسور الاسباني ” أونطونيومانويل رودريغيث راموس ” ، أندلسنا الّتي حملت سحرا عجيبا كاد يأخذ بأيدينا نحو الألق الأبدي ، ورسم ما بداخلنا بريشة فنان حالم ، ونهاية أجهضت أمانينا ونحتت ما بداخلهم بإزميل من ورشات تخاذلنا فبالغ في إذلالنا ….أليس من فراسة العرب وعجائبهم أن يشمّوا نكهة عطر النهاية منذ بدايها ؟ فكيف سقطوا في فخ الغواية واستسلموا لمفاجآت الدّهر ؟ لماذا نفكرفي نهايات الأشياء رغم أنّنا نعيش بدايتها ؟ ربما من سذاجتنا صرنا نعشق أحزانها …هل معنى ذلك أنّنا نعشق الحديث عن نكبة المسلمين في سقوط الأندلس ونهايتها ؟ أم هو ليس عشقا بقدر ماهو حسرات وبكاء على فقد عزيز ؟ هل صرنا نبكي و لا نملك إلا العجز والتعاطي مع الأخيلة على أنها وقائع ، والهزائم على أنها طلائع فتوحات مؤجلة….؟
فلنستعرض أمكنة وأزمنة الأندلس المفقودة على لسان أندلسي بالاكتساب وآخر بالوراثة ، ولا أفضل ممن وصف الأندلس وحكاها و أرّخها من قديرين من عباقرة الجزائر من أقصيها شرقا وغربا وأقول الجزائر اعتزازا لأنها الوريثة الشرعية للأندلس التي أثرت وتأثرت بموروثها ومازالت .
شيء من وحي النّوبة :
هاهو الأندلسي بالوراثة سليل المورسكيين الأديب العالمي ابن أقصاها الغربي التلمساني ” واسيني لعرج ” يبدع في الكشف عن فتنة الأندلس العروس ، منتهجا لغة البيان وفلسفة الرصانة ، يؤرخ لنا روائيا ويسرد لنا تاريخيا بأسلوب الفنان ، ممتطيا صهوة الكلمات ، بلغة يطبعها سحر الرمز وعمق المجاز حتّى تتخطى في امتدادها حدود الزمان والمكان ، وهي أحد أهم الخصائص التي تميز بها أسلوب أديبنا التجديدي المتأصّل المنفرد ، الذي يفكر بقلمه وبوجدانه الانساني ـ حتى لا نقول العربي ـ . تاركا المجال لمختلف أنواع التخمين والتفسير، والقراءات والأبحاث المتجددة، معتبرا نصوصه وكتاباته مفتوحة وصالحة لجميع الأزمنة والأمكنة، لتكون بمثابة رؤية فكرية إنسانية وتأملية مستوحاة من الواقع والمناهج الفلسفية للشرق والغرب، متأثرا فيها بتراثه الجزائري الاسلامي الموريسكي الغني بالمواضيع الروحية والإلهية، إضافةً لتأثّره بحركة الوجدان الغربية المعروفة بالعقلانية و الرومانسيّة ، لتغدوكتاباته سمفونيات وترانيم وموشحات ، فيها من العذوبة ما يشبع ويمتع . حتىّ يتراءى للقارىء أنّ ما بين قلبه وقلمه مساحة وسعت كل الحياة .
سئل البروفيسور الأعرج عن زمان الأندلس والفقدان والاسترداد ، فكان حديثا ذو شجون وسردا ذو فنون ، إذ وصل الزمان بالمكان ، ووصف الأندلس بمجد العرب والمسلمين في ذروته ، ونعتها بالميراث الإنساني الذي يشع على العالم ،وأكد الأعرج أن المسلمين فقدوا الأندلس ، لكنّهم منحوها ليس لإسبانيا فحسب بل للعالم ، ومن بين ما أشرقت به على الغرب ” ابن رشد ” الذي كان له الفضل في تنوير ماقبل التنوير الأوروبي ، أكد البروفيسور أن الغرب استثمروا في فلسفة ابن رشد من خلال كتابه “فصل المقال ” الذي أكد فيه صاحبه على فصل الديني عن السياسي ، وكان منطلقا لللائكية لدى الغرب . إن حضارة الأندلس بمفهوم الأعرج لم تتوقف عند الفكر والتنوير فحسب ، بل تعدّتها إلى الفنون والموسيقى والعمران ، فما تبقى من العمران حسبه ، هو من أروع ما شهدته الحضارات من إنجازات . أدرك مفكرنا المورسكي أنّ الرواية والفن من أصلح الوسائل لتصحيح مزاج الأمة النفسي . فتغنّى بموشحات أندلسية قال فيها بطريقته ” يا زمان الوصل بالأندلس ” فأخرج لنا ” رمل الماية ” رواية من أبدع أنواع السرد الحكائي المستوحى من زمان الأندلس ، راوح فيها بين الواقعي والمتخيّل ، و نوّع في مستوياتها السردية بمد جسر رمزي دلالي تاريخي من أعالي الغرب إلى أقاصيها . بديع غرناطة حرّك مشاعر الأديب ليزجّ ببعض الشخصيات التاريخية في صميم الأحداث ويدفعها إلى الحوار ، حتى يشذّ عن النمطيّة في شخصيات الرواية ويستنسخ دنيازاد الرّاوية من شخصية اختها شهرزاد ، وراح يكلّل عشقه للمكان والزمان و كتب ” البيت الاندلسي ” فكانت القصة درامية بشكل يستحق أن يروى، تستحضر التاريخ لتكون مزيجا بين البحث التاريخي والفن الروائي ، وعاب أديبنا المورسكي تنكر إسبانيا للموروث العربي الإسلامي في الأندلس ووصفه بالجحود للمنجز الإنساني . كما عاب على العرب والمسلمين بكاؤهم على الأطلال ، وعزوفهم عن البحث والاستثمار في الموروث الثقافي الحضاري العالمي ، كون أنّ الحضارة تخضع للدورة الطبيعية الإنسانية ، وأن نقطة نهايتها لدى أمّة هي نقطة بدايتها لدى أمم أخرى ، حسب ما يرى أديبنا فنحن العرب نحيل كثيرا من أزماتنا إلى التاريخ، لا تأصيلا وتجذيرا، لكن بحثا عن حلول مخبوءة في المجد التليد الذي بأيدينا أضعناه، أو غالبا نجد العزاء في البكائيات المطولة، والوقوف على أطلال عروبتنا وأحيانا إنسانيتنا ، فالأجدر بنا لو كنّا اكتشفنا نقائصنا قبل غرورنا لكان العالم بشكل غير الذي هو عليه ، ولم نسمع من أبي البقاء الرّندي ما رثى : لكل شيىء إذا ما تمّ نقصان …..فلا يغرّ بطيب العيش إنسان .
ثلاثة فرائض ونافلة :
وغرد الطير فوق الأيك مبتهجا ، من حسن ما أبصرت عيناه من متع ،غرّد من أقاصي الشرق الجزائري متعهدا أندلوثيا( الاندلس) بعدم النسيان ، فنسج الكلمات لتبتسم مع الأماني . أندلسي بالاكتساب ، إنّه الأديب الدكتور ” عبد اللّه حمّادي ” ، خريج جامعة مدريد المركزية باسبانيا وجامعة غرناطة . مختص في الأدب العربي و الاسباني واللاتينو امريكي ، شاعر ومترجم وباحث انجزالعديد من الدراسات الاكاديمية المتنوعة و المنشورة في دور النشر الجزائرية و العربية و الدولية ، أديب متضلع في اختصاصه، متمكن من لغته و لغات يجيدها كتابة ونطقا (الإسبانية) ، يرسل الكلمات على نسق لوحة الفنان تدهش الرائي وتجذب لبه، وتسلب مشاعره، وتتفتق عندها المواهب، ويتفجر المكبوت في نفسه لتبوح بأسرارها وتكشف عن مخزون إبداعها والمطمور من شاعريتها.
لعلّني لم أركاتبا تعلق بمدائن كما تعلق حماّدي بمدائن الأندلس ، فعندما تمارس الأمكنة سحرها وسطوتها على الإنسان وتجبره على التغزّل بها أو رثائها ، تجعله يتفرّد في الإبداع فيكتبها ويصفها ويحكيها بأمتع ما يمكن للسامع والقارىء ان يرى ويسمع ، أكاد أقول أنّ جل ما كتبه أديبنا ، كان في الرثاء أو التغزل بمدن وأمكنة أندلسية ، فما كتبه عن قصور غرناطة ومدن الأندلس يشكل جزءا كبيرا من أعماله ، إنّ الكتابة حول الاندلس متعة لإثراء الذائقة الأدبية واكثرمن ذلك هي الرسالة التي يريد إيصالها للفرد العربي ، على أنّ فقداننا للأندلس بمثابة مأساة فقداننا لنقطتنا المرجعية في هذا العالم، إنها مأساة ضياع مكانك في بقعة المجد الذي تكاد تجزم أنك لن يعود إليه ، ولم يعد نافذك التي تطل منها على العالم ….إنّه الفطام الحقيقي ما حدث للمسلمين عندما فقدوا الأندلس، وبقي لهم حق البكاء على ذلك المكان في قصائد الرثاء الطويلة . يظهرتعلّق أديبنا بالاندلس وحنينه لوصالها في غزير كتاباته حولها ، وهو الذي كتب حول الموسيقى الأندلسية من زرياب إلى ابن باجة ، ” الموريسكيون ومحاكم التفتيش ” والعديد من المقالات والنّصوص حول هجرة الجزائرين من وإلى الأندلس . وهاهو يردد موشح الأندلس الشهير ” يا زمان الوصل بالأندلس ” بكل ما أوتي من حنين وشغف وتشبع بالثقافة الاسبانية الإسلامية فاختزل لهفة السنين في كتابه المكين ” المعتمد بن عبّاد” الذي يعتبر وبشهادة كبار النقاد ذروة مجد كتاباته التاريخية الأدبية ، لما يحمله من إمتاع سردي وبيان أدبي ودقة توثيقية وحبكة حكائية متفرّدة .لقد لخّص لنا تاريخ الاندلس في ثلاثة فرائض ونافلة . و يصح الإسقاط هنا لأنّه حصر أمجاد الأندلس التي وجب الولاء والإيمان بها في محطّاتها الثلاث ، وأضاف محطّة الموريسكيين كنافلة تضاف لزمن الأندلس الجميل ، فأمّا المرحلة الأولى فوصفها أديبنا بمرحلة الإقلاع والتي تمتد من فتح طارق إلى أفول نجم الدولة الأموية ، والمحطّة الثانية تمثلها الدولة العامرية ، امّا المحطة الثالثة فتتجلى في حكم ملوك الطوائف ، أين امتزجت الثقافات وتعدّدت اللغات وتنوعت الديانات في ظل التّعايش و التسامح الإسلامي الرائع ، الذّي كان كالزّيتونة المباركة لاشرقية ولا غربية على حدّ وصفه ، تمخّضت مرحلة ملوك الطوائف عن مواليد فاقت في حسنها وجمالها كل مولود فأنجبت ” غرناطة الغنّاء” التي قامت من رماد الموحدين و كلّلت بفاتنة العصور “قصر الحمراء ” و” جنّة العريف ” .آمنّا إيمانا مطلقا بفرائض الحسن والجمال في حضارات الدنى ، ونضيف نافلة تقربنا من وصال الاندلس زلفة .إنّها محطّة المورسكيين ، فبعد أن سلّم آخر ملوك الأندلس مفاتيح الحمراء إلى الملكين الكاثوليك “فيرناندو ” و ” إيزابيلا” أسدل ستار أندلس المغارب ، ولم يبق من صفحاته إلاّ ماهو مدون بالحبر والدم او الحجارة أو الجسّ أو الخشب ، أو على رخام النافورات والمآذن ، أو في الحدائق الغناء من غوطة غرناطة السّاحرة .
رابط مختصر: https://anoujoum.com.au/?p=13392